مسافرون يدركهم العطش ينحرون جمالهم ويشربون ماء الكرش

مسافرون يدركهم العطش ينحرون جمالهم ويشربون ماء الكرش

 

اقتفاء تراثنا الشعبي في كتب الرحالة الغربيين
مسافرون يدركهم العطش ينحرون جمالهم ويشربون ماء الكرش ( 1-2 )

 

مع بداية الصيف وتصاعد درجة الحرارة في كل عام تظهر على الواجهة قضية حوادث ( الموت عطشا ) مع بعض مغامرين تحيط بهم ظروف الصحراء إلى أن تفتك بهم ويسلموا الروح بعد ما يكون احدهم قد أتبع سيناريو ( موت العطش ) المعروف الذي يكاد يتكرر مع كل واحد يموت على هذه الطريقة , عندما يبدأ في مرحلة متقدمة من مراحل اليأس بالتخلص أولا من ملابسه حتى يعلقها على اقرب شجرة ثم يتمدد إلى جوارها على أمل ان تدل عليه أو يهتدى بها على جثته قبل أن تنهشها الوحوش . وهي من الحوادث التي بقت تلازمنا حتى مع وجود أجهزة الاتصال ووسائل النقل الحديث نتيجة للتهاون وعدم أدراك حجم الخطر الذي ما كان يسلم منه حتى الآباء والأجداد وهم الأكثر معرفة وخبرة بمسالك الصحراء والأساليب المثلى للتعامل معها. حيث ترصد الروايات والقصص المنقولة حوادث مؤلمة شهد نماذج منها المستشرق الانجليزي ديكسون وذكرها في كتابه ( الكويت وجاراتها ) سنوردها مفصلة في الجزء الثاني مع ما يؤكده من لجوء البدو أحيانا إلى خيار ذبح الراحلة لامتصاص سوائل الكرش والتي بدأها بمقدمة قال فيها :

في كل عام عند ما تبلغ درجة الحرارة ذروتها في شهري يوليو وأغسطس ، لتصل إلى 150 ف , تشهد المناطق الداخلية من الكويت حالات للوفاة بسبب العطش , ومن الطبيعي أن نتساءل كيف يخطئ البدوي , وهو الخبير بالمسافات بين الآبار والشقوق ويعرفها كما يعرف راحة يده ويمكنه أن يحدد بكل دقة عدد القرب اللازمة له في أي رحلة في حساباته , فيستهلك كل ما يحمله من قبل أن يصل إلى وجهته .

والإجابة ليست هي الجهل أو الحمق , بقدر ما هي سوء الحظ , لأن البعير يصاب في الصيف بالهزال والضعف نتيجة لندرة العلف الجيد, رغم ما يبدو عليها ظاهريا من علامات الصحة, وتتعرض للانهيار المفاجئ أو تعجز عن السير بسرعتها المعتادة , ومن ثم يعجز عن الوصول إلى مصادر المياه التي سيعتمد عليها بعد حين , خلال العدد المألوف من الأيام , ويجب أن ندرك أن الوقت الذي يستغرقه البعير للوصول من منطقة الآبار إلى منطقة مماثلة أخرى في الأراضي الداخلية للكويت يتراوح بين ستة وسبعة أيام , وإذا بدأت حركة البعير في التباطؤ ولم يعد يستطيع الوصول إلى مهمته الا خلال ثمانية أو تسعة أيام فهنا تنشأ المشكلات بالنسبة للمسافر ولدابته معا .

وكان عام 1942 م عاما استثنائيا فيما يتعلق بارتفاع درجة الحرارة ولكن مما يبعث على السرور أن نسجل أنه لم تحدث أي وفيات نتيجة للعطش في ذلك الصيف , ولكن كانت هناك بعض الحالات التي أفلت فيها أطرافها من الخطر بكل صعوبة , وقد روى لي الشيخ شايع الجبلي ونحن بجوار بئر المياه رقم 13 الذي حفرته شركة نفط الكويت في المنطقة المعروفة لدى البدو المحليين بالحماطيات والتي تفصلها أربعة من مجاري المياه غربي منخفض الشق عن مدينة الكويت , ويقع على بعد خمسين ميلا إلى الجنوب الغربي منها , وكان شايع الجبلي وهو من شيوخ الجبلان من مطير يتولى مسؤولية الإشراف على القطعان الثلاثة الكبيرة من الجمال التي يمتلكها فخامة الشيخ أحمد , وكان يقيم بالكويت .

في 14 / أغسطس / 1942 م غادر رجل من الدهامشة من العمارات من عنزة – آبار اللصافة بالعربية السعودية متوجها إلى الكويت , وكان معه رجل من ( قبيلة تشتهر بالقنص ) اتخذ منه دليلا, بالإضافة إلى زوجته , وكانت وجهتهم هي بئر المياه رقم 13على مسير ستة أيام من السفر بالصيف . وبينما هم لا يزالون على بعد اثنتي عشر ميلا من البئر , نفدت كمية الماء التي يحملونها معهم وبدأت علامات الإرهاق تتبدى على مطاياهم , ورغم ذلك , واصلا السير طوال يوم وليلة بكاملهما دون أن يدركوا , وأصبحوا على بعد عشرة أميال فحسب من البئر . وهنا انهارت المطايا حيث لم تتناول جرعة ماء واحدة طيلة ستة أيام . كانت الشمس قد غربت منذ قليل , والركب لم يشربوا قطرة ماء لمدة ثلاثين ساعة , فأخبر الرجل مرافقيه أنه لن يستطيع مواصلة الرحلة سيرا على قدميه , وأنه سيمكث وما يحملونه من أشياء بينما يحاولون هم الوصول إلى البئر .

وكانت آخر كلماته لهم عند انصرافهم : إذا أمكنكم العودة لمساعدتي صباح الغد , فالأرجح أنكم ستجدونني على قيد الحياة , أما إذا لم تتمكنوا , إذن فالوداع .

ومضى رفيقه وزوجته في طريقهما سيرا على الأقدام وعند ما انتصف الليل كان قد وصلا بالفعل إلى نقطة تبعد حوالي الثلاثة أقدام عن البئر رقم 13 وخيام شايع الجبلي . ونتيجة للظلام ضلا الطريق وانحرفا عن موقع المخيم لمسافة ميل وفجأة قالت الزوجة الشابة لزوجها انها تعتقد أنها سمعت صوت كلب ينبح من ورائهم من الناحية اليمنى , وكان الرجل في حالة من الإرهاق لم يتمكن معها من أن يسمع أو يتكلم أو يعبر عما يريد , ولذلك أمسكت زوجها من يده , واقتادته صوب مصدر النباح , وسارا معا في خطوات مرهقة ومتعثرة , إلى ان دخلا عند الساعة الثالثة صباحا نطاق خيام شايع , حيث خر الاثنان فاقدي الوعي .

( يتبع )

مسافرون يدركهم العطش ينحرون جمالهم ويشربون ماء الكرش ( 2-2 )

الذين قرؤوا معنا حلقة الأسبوع الماضي يتذكرون ما كان قد ذكره الانجليزي ديكسون (الكويت وجاراتها) حول حوادث الموت عطشا لبعض المسافرين ليس لأنهم لا يملكون الخبرة والمعرفة، ولكن لظروف طارئة مختلفة تحيط بهم في الصحراء فينهارون بسببها أو تنهار مطاياهم وذكر قصصا نقلها عن الشيخ شايع الجبلي المشرف آنذك على قطعان ابل الشيخ أحمد الصباح سنة 1942 م، بدأناها بقصة رجل من الدهامشة سافر من آبار اللصافة إلى الكويت واصطحب معه دليلا ترافقه زوجته وفي منتصف الطريق نفد الماء وعجزت الجمال عن المسير فانهار الرجل المنهك الا ان مرافقه وزوجته تركاه مع مطاياه وواصلا سيرهما بخطوات متعثرة حتى وصلا نطاق خيام شايع الجبلي في ساعات متأخرة من الليل عندما خرا فاقدي الوعي إلى ان تم العثور عليهما فجرا وهنا يستكمل ديكسون بقية روايته قائلا:

لم يعودا إلى رشدهما الا في الساعة السادسة بعد صب الكثير من الماء البارد فوق رأسيهما وتناولهما قدرا قليلا منه. وعند ما استرد الرجل قدرته على الكلام أخبر شايع عن الرفيق الذي تركاه منذ 12 ساعة ولكن لسوء الحظ كانت المطايا جميعا في مرعاها في الباطن منذ يومين، فطلب البدوي الشهم قربة خفيفة ملأها بالماء وانطلق سيرا على الأقدام مع اثنين من القبيلة للحاق برفيقه قبل أن يدهمه الموت وعثروا عليه في الثالثة بعد الظهر وكان لم يتناول جرعة ماء طوال 50 ساعة وفي حالة احتضار وان كان لا يزال حيا وبعد أن أعطوه قدرا من الماء ثم بعض الطعام ساعدوه في العودة للمخيم بعد غروب الشمس وفي حوالي الحادية عشرة ونصف ليلا وصلوا إلى البئر رقم 13 وسط جو صاخب من الفرحة والابتهاج.

وأخبرني شايع الجبلي أنه لولا ضعف الجمال بعد المجهود الشاق والطويل الذي بذلته لتمكن من الوصول إلى مخيمه بسهولة عند الفجر ولما انحرف عنه مسافة ميل وكان عدم إعداد الجمال على النحو السليم وليس الخطأ في التقدير من جانب الرجال هو الذي أدى لهذه المأساة.

وأما القصة الثانية فتدور حول اثنين من المسافرين كانا في طريقهما من الباطن إلى الكويت مرورا ب (قرية السفلى) في نفس الشهر (اغسطس) وكان أحد الجملين اللذين امتطاهما الرجلان مستعارا من أحد أبناء القبيلة من أترابهم أي أنه لم يكن مما يملكان. وبينما هما لا يزالان على مسيرة حوالي الثلاثين ساعة من الوفرة نفدت كل مياه الشرب التي يحملونها معهما ونتيجة لشرود احد الجملين أثناء الليل اضطرا لقضاء يوم وليلة بكاملهما بحثا عنه إلى أن عثرا عليه وحاولا الصمود ومواصلة الرحلة بدون ماء وبعد أن بذلا جهدا جسورا على امتداد ثلث المساحة التي قطعاها ونظرا لإحساسهما ببوادر الدوار وفقدان الوعي التي بدأت أعراضها عليهما قررا نحر أحد الجملين وشرب ما يحتويه جوفه من ماء وهي كمية ضئيلة يختزنها في جزء مما يسمى بالكرش ولا شك أن هذا التصرف أنقذهما من هلاك محقق وتمكن الاثنان من الوصول إلى آبار الوفرة قبل أن ينهارا أمام خيام بعض قبيلتهم ويقال انهما ظلا غائبين عن الوعي لما يزيد عن 4 ساعات.

ولكن هذه الواقعة كان لها امتداد مؤسف شهدته بنفسي في الكويت بعد عشرة أيام بينما كان الشيخ عبدالله المبارك يترأس مجلسه لإقامة العدل بين القبائل وقف الرجلان اللذان أوردت قصتهما في ساحة القضاء متهمين بنحر جمل لا يملكانه وانه كان معارا لهما فحسب وطالب صاحب الجمل بإصدار قرار عادل بإعطائه جملا بديلا أو ثمنه وتساءل في تعجب لماذا لم ينحر الرجلان اللذان نال منهما العطش الجمل الذي يملكانه وحاولا عبثا انه في ظل الوضع الذي وجدا نفسيهما فيه كانا في حالة عجز عن التفكير وأنهما احتفظا بالمطية الأقوى من بين الاثنتين فقط بدافع الرغبة في الحياة

وقرر الشيخ أن يدفع المتهم 130 روبية بعدما استشار أشخاصا يعرفون الجمل والقضية ومثل هذه القضايا لا تعرف العواطف عند الحكم وإنما قاعدة العين بالعين والسن بالسن هي تأخذ مجراها وكم شعرت بالأسى لما حاق بالمتهم.

وجرت أحداث القصة الثالثة في أغسطس 1942م على بعد غير كبير من البئر رقم 13 عندما كان اثنان من رجال قبيلة حرب في طريقهما للكويت بالجمال من حفر الباطن ولكنهما ضلا الطريق نتيجة لهبوب عاصفة عاتية وعندما وصلا إلى نقطة تبعد 10 أميال عن البئر وقد نال منهما الإرهاق نحرا الجملين وشربا ما في جوف كل منهما من ماء ونظرا لعجزهما عن مواصلة السير على الأقدام وعدم معرفتهما الاتجاه الذي عليهما اتباعه أخذا يتجولان في حركة دائرية إلى ان عجزا عن الحركة تماما وخرا على الأرض. وبعد يوم عثر عليهما رجال شايع الجبلي وكانوا قادمين من حفر الباطن واتوا بهما إلى المخيم بعد أن أيقن الجميع أنهما أصبحا في عداد الموتى ولكنهما استردا الوعي رغم قضاء أربعة أيام في أواسط أغسطس بدون ماء وعلق الجبلي بعد أن أنهى سرده لهذه القصة: ان رحمة الله واسعة.

 
Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5

أضف تعليقك على الموضوع

code
||