تجليات التراث العربي في شعر العزازي
- الشعر الشعبي والنبطي والفصيح
- 14/2/2015
- 2615
- منقوووول
التراث مصدر ثرٌّ من مصادر الشعر العربي الحديث، ينهل الشعراء منه ويتأثرون به في شعرهم في المجالين الموضوعي والفني، وقد عرف الشعراء والكتّاب العرب القدماء مثل هذا التأثر، فسمّاه الرازي التلميح، وذلك بأن يشير المبدع في كلامه "إلى مَثَلٍ سائر أو شعر نادر أو قصة مشهورة من غير أن يذكر" نصا، وهذا ما ذهب إليه القزويني، عندما قال: إن من "العسير على الشاعر أن يتجرد كلياً من التراث، كما أن الشاعر العظيم هو الذي يستطيع أن يتجاوز هذا التراث مضيفاً إليه" أو مولِّدا منه. والتراث ليس "تركة جامدة، ولكنه حياة متجددة، والماضي لا يحيا إلا في الحاضر، وكل قصيدة لا تستطيع أن تمدّ عمرها إلى المستقبل لا تستحق أن تكون تراثا"، لقد كان العزازي وفياً للتراث بمظاهره المختلفة، ينتقي منه ما يتناسب مع تجاربه الشعرية وحالاته النفسية، فـ"لكل شاعر أن يتخير تراثه كما يشاء" بإضافات جديدة أو تجليات مبتدعة، فكنا نجد في معظم قصائده تجليات لهذا التراث: إشاراتٍ وتلميحاتٍ ونصوصاً وكلماتٍ وعباراتٍ وصوراً تراثية، وغني عن القول إن الكتابة ممتلئة بذكريات استعمالاتها السابقة، فالكلمات لها ذاكرة تمتد بغموضٍ وسط دلالات جديدة، كما أن الإبداع الفني بحد ذاته هو محاولة للتّسوية بين ذكريات أجزاء هذا التراث من خلال استعمالاته السابقة من جهة وحرية المبدع في عملية الإبداع من جهة أخرى؛ وعليه فإن مهمة المبدع في هذه الحالة تكون إيجاد تسوية بين تراث هذه الكلمات والجمل والنصوص التي يتأثر بها من جهة وحريَّتِِهِ في الكتابة مقرونة بظروف أخرى عديدة ليس هنا مجال تفصيلها من جهة أخرى، فإبداع النص ليس فعلاً ذاتياً خالصاً ينبثق من ذات المبدع وحسب، وإنما هو فعل يتشكل في إطار شبكة معقدة من البِنى الثقافية والمصادر المعرفية التي حصّلها هذا المبدع تمكِّنُه عبر سلسلة من العمليات السيكولوجية والعقلية والإجرائية من إبداع نصه؛ وعليه فإن التراث بأجزائه المختلفة والإفادة منه في النص الجديد هو مجال إبداع مهم لدى المنشئ، كما أنه هدف كبير لديه يسعى من خلال الاستعانة به إلى تكثيف رؤاه في نصه الإبداعي، بقصد أن يطوي مسافات طويلة من التعبير فيه، ولتلهمه هذه النصوص بما فيها من مظاهر تراثية إمكانيةَ التعبير عن التجربة الشعرية الخاصة بشكل أدق وأكثر إيحاء، كما أنها في الوقت ذاته تساعد المتلقي على قراءة النص قراءة جديدة تتناسب مع رؤيته الخاصة ومع درجة إحاطته بهذا التراث مع الاحتفاظ بأصالة الإبداع الخاصة المعبرة عن إبداع الفنان نفسه وعن درجة ارتباطه به أيضا. ولا بد من الإشارة إلى أن الشاعر يتحرك في نصه المُبدَع بين مستويين: المستوى الباطني أو الذهني من جهة والمستوى الصياغي الذي يظهر عليه النص - حاملاً مظاهر تجليات التراث - من جهة أخرى، وغني عن القول إن الوصول إلى المعنى الباطني من خلال المعنى الصياغي لا يمكن ادعاء بلوغ أعماقه، لأن مثل هذا الادعاء مصادرةٌ للاجتهادات الأخرى والإبداعات الإضافية التي أتى بها الشاعر من خلال المعاني الجانبية، ومن خلال الخصوصية الخاصة والإمكانيات الذاتية التي يتميز بها كل مبدع عن غيره من المبدعين، لأن كل شاعر واقعٌ بين مستويين من اللغة، اللغة العامة باعتبارها نسقاً للأمة، واللغة الخاصة – الأسلوب – باعتبارها نسقاً للذات، وقد كانت لدى العزازي إمكانية جيدة في الإفادة من اللغة العامة ومن التراث بتجلياته المتعددة إضافة إلى تمتعه بإمكانيات ذهنية وشعورية وفنية ذاتية ميزت شعره وطبعته بطابعها الخاص.
تجليات التراث العربي في شعر العزازي:
ظهرت في شعر حسن بكر العزازي العديد من التجليات التراثية التي يمكن حصرها في المجالات التالية:
التجليات الدينية:
انحصرت التجليات الدينية في:
- الاقتباس من القرآن الكريم:
القرآن ليس نصاً تراثياً قديما، وإنما هو نص حي حاضر في كل زمان منذ نزوله وحتى آخر الزمان، فقد تأثر به الشعراء العرب قديمهم ومعاصرهم وحديثهم، وقد جعل السيوطي الاقتباس مقتصرا على القرآن الكريم وحده، في حين وسّعه التفتازاني حتى شمل الحديث الشريف، وعرّفه بأنه تضمين الشاعر أو الكاتب كلامَه شيئاً من القرآن الكريم أو الحديث الشريف لا على أنه منهما، فلا يقول: قال تعالى أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو نحو ذلك، فإن فعل فلا يعود ذلك اقتباسا؛ وعليه فإن هذا الجزء من الدراسة لا يهدف إلى الإشارة إلى معنى قرآني أخذه الشاعر من القرآن الكريم أو اقتبسه منه اقتباسا نصيا مباشرا، وإنما يهدف إلى دراسة المعاني التي أفادها الشاعر من آياته، أو ولّدها بتأثيرها، أو حوّرها عنها، أو ما أوجدها بإيحاء منها، سواء بشكل يقترب من معاني هذه الآيات أو يبتعد عنها قليلاً أو كثيرا، بحيث تكون صلة المعنى الجديد بالآيات القرآنية غير مباشرة، فقد تكون محوّرة أو مخترعة جزئياً أو كليا، على صلة قوية أو ضعيفة بالنص القرآني المستفاد منه. وقد لاحظنا أن تأثر الشاعر بالنص القرآني في شعره قد كان كبيرا، ظهر ذلك من خلال اقتباساته الكثيرة منه، والتي تفهم من تلميحات النص الشعري الجديد وإيماءاته وشفراته، فالآيات ومعانيها تستنتج استنتاجاً وتُخَمَّنُ تخميناً من نصوص الشاعر، وهو ما يُطلق عليه تناصّ الأفكار أو المقروء الثقافي الذي يستحضِر تناصّاته بروحها أو معناها دون حرفيتها أو لغتها، والتناص في هذه الحالة لا يكون متعمداً وإنما يأتي بالاستدعاء الثقافي العادي، أو بنشاط الذاكرة التي تسترجع تراث المسموع والمقروء، والقارئ عندما يقرأ النص أو يسمعه فإنه يعيد إنتاجه مرة أخرى من خلال ثقافته الخاصة، ومن خلال مقارنته بنصوص أخرى معروفة لديه، وهذه العملية الاستنتاجية للنص الأدبي قائمة على لغة مشتركة بين الكاتب والقارئ يطلق عليها (فوكو) لعبة الكتابة والقراءة، وغني عن القول إن اللغة هي المادة الأولى التي يشكل الشاعر منها فنه ويجسد من خلالها إبداعه، وفي الشعر فإن أسرار الإبداع الفني لا تكمن بعيداً عن العلاقات اللغوية، التي قد يتجلّى جانب كبير منها متأثراً بالنصوص السابقة التي يفيد الشاعر منها، وقد انطبق هذا المفهوم على الشاعر العزازي، فلاحظنا أنه لا يتعامل مع اللغة باعتبارها أداة إبداع وتوصيل فقط، وإنما يراها - كغيره من الشعراء - أداة إبداع وتوصيل مثلما هي أداة تأثير في الوقت ذاته، يتأتى جانب كبير منه من تأثير هذه النصوص المقتبسة بإيحاءاتها الكثيرة في النص الجديد ومن ثُمَّ في المتلقي.
ومن الملاحظ أن الشاعر لم يتجاوز في اقتباسه من النص القرآني حالة الاختيار الجزئي، فلم يجعل الموضوع الديني موضوعاً شعرياً يُسْقِطُ عليه مشاعره، وإنما هي إشارات واقتباسات أغلبها محوّرة لآيات قرآنية معينة أو مولّدة منها، فهو لا يستعرض كامل الصورة القرآنية ولا يستغرق جزئياتها وإنما يشير إليها مجرد إشارة بما يتناسب مع تجربته الشعرية وحالته النفسية، مكتفيا ببعض أجزائها دون بعض، وإلاّ كان ذلك خروجاً على حد الاقتباس أو إفراطاً مخلاً في استعماله، والشاعر يعتمد في كل ذلك على مبدأ الحذف الذي وصفه الجرجاني بأنه "دقيق المسلك، لطيف المأخذ، شبيه بالسحر"، لما في هذا الاختيار الجزئي القائم على الحذف من إبهام يدعو إلى سَعَةِ التصور والتأويل، ولما يوفره للمتلقي من لذة الاكتشاف ولذة متابعة ما يوحي به النص المُستدعى من تداعٍ، ولما يقدِّمه من إمكانية في إغناء النص وإثرائه وإبعاده عن التقريرية والمباشرة؛ ولما يوفره لمَلَكة الشاعر التخييليَّة من مجال في الإفادة من الصورة القرآنية - كما أسلفنا – ليبدع على هامش تأثيرها معاني جديدة.
لقد أفاد العزازي من نصوص الآيات القرآنية التي ساعدته على رسم الصور والمواقف والرؤى التي وردت في شعره، حيث جاءت متأثرة بالصور التي تحملها هذه الآيات بشكل محوّر أو إيمائي، توحي بالنصوص القرآنية التي يقتبس منها أو يتأثر بها، فمن ذلك إفادته من الآيات القرآنية التي ترسم قصة يوسف عليه السلام، حيث اتكأ على بعض آيات هذه القصة في غير موضع من ديوانه، مصورا معاناته التي يكابدها غريبا بعيدا عن عمان مريضا متألما، يقول في قصيدة "قميص يوسف":
يا ضيفَ جفني لا عدمتُ نزولَكمْ
حتّى وأنتَ الزائرُ المكذوبُ
أنتَ القميصُ وقد أتى من يوسفٍ
وأنا بفرحةِ لثمِِهِ يعقوبُ
تكفيكَ عمانُ التي لمّا تزلْ
حوراءَ يحرقُ حبُّها ويذيبُ
تشفي العيونَ بحسنِها وبهائِها
وتُطِبُّ قلبا ما شفاهُ طبيبُ
إن الشاعر يفيد في تصويره لطيف عمان الذي يزورُهُ من بعض أجزاء الصورة القرآنية التي يرسمها القرآن الكريم لقصة يوسف عليه السلام، وذلك من خلال بيت واحد في القصيدة، يذكر فيه قميص يوسف، ولثم يعقوب له، وفرحه به، وبقرب رجوع ابنه إليه، ولكنه يحوّل هذا الجزء من القصة (القميص) إلى صورةٍ لِطَيْفِِ عمان (ضيف جفني)، فيصبح طيفُ عمان الـ"القميصَ وقد أتى من يوسفٍ" بما في هذه الصورة التي يرسمها الشاعر من فرح اللقاء بعودة الغائب المنتظر، ثم لنلاحظ أن جمال يوسف قد فاض جمالاً جديداً ولّده الشاعر وأسبغه على عمان، فبدت "حوراء يحرق حبها ويذيب"، مثلما أحرق جمالُ يوسف قلبَ امرأة العزيز، ثم إن صورة عمان لتسمو في خيال الشاعر ويزيد أثرها لديه حتى تستحيل قميصا يرد بصر الشاعر عليه مثلما رد قميص يوسف بصر أبيه، ولنلاحظ أيضا أنه يخاطب جفنه المكلوم الذي لا يداويه إلا جمالُ عمان التي "تشفي العيون بحسنها وبهائها" مثلما هو جفن يعقوب الذي "ابيضَّت عيناه من الحزن فهو كظيم" ولم يشفه إلا قميص يوسف. وكما كان قلب يعقوب حزيناً كظيماً فقد كان قلب العزازي حزيناً كظيماً أيضا، لا يرى ما يزيل حزنه غير طيف عمان، فهي التي "تطب قلباً ما شفاه طبيب"؛ وبذلك فقد أصبحت قصة يوسف مصدراً أبدع الشاعر بعض شعره في ظلاله وبتأثير منه، وبذلك فقد جعل الشاعر منها معادلاً موضوعياً لقصة حياته بدت من خلال تجربته الشعرية في هذه القصيدة وفي شعره عامة، كما أصبح قميص يوسف معادلاً موضوعياً لطيف عمان "ضيف جفني"، في حين كان يعقوب المتلهّف لرؤية ابنه بعد غياب طويل، يجد ريحه في ذلك القميص معادلاً موضوعياً للشاعر نفسه الذي يشتمّ عبيرَ عمان التي يفقدها ويحلم بعودتها إليه أو عودته إليها عطراً و"نسريناً وريحانا"، يقول في قصيدة "ثوب العافية":
ألقوا على عيني اليسرى إذا عميتْ
بثوبِِ عمانَ إنَّ الشوقَ أضنانا
ترتدُّ مبصرةً عيني وسالمةً
والأنفُ يَنْشُقُ نسرينا وريحانا
لقد اندمجت صورة قميص يوسف في النص القرآني بصورة طيف عمان في تجربة الشاعر، التي تجلت لديه بصور عديدة، فهي تارة طيف يزوره "الزائر المكذوب"، وتارة أخرى "ضيف جفني"، وثالثة "القميص وقد أتى من يوسف"، ويتجلى في رابعة بعنوان قصيدة يوحي بالقميص وإبرائه له "ثوب العافية"، فلم يعد هناك فرق بين وظيفة القميص عند يعقوب ووظيفته في تجلياته المتعددة عند العزازي، لقد أبحر الشاعر في عالم الداخل، يمنّي النفس ويجترُّ الألم، محاولاً من خلال هذه القصة القرآنية أن يوجد معادلاً موضوعياً – وليس مقابلاً مشابهاً وإن كان هذا الجانب موجوداً – يكثّف بوساطته تجربته الخاصة ويعبر عما يعانيه من خلال الإبداع الشعري متأثراً بها، وهو بإبحاره في هذه الذات يصل إلى حال تشبه حال المتصوف الذي يميل إلى استنطاق أعماق النفس بكلمات قليلة مكثفة، فيختار الشاعر من أجزاء القصة القرآنية ما يناسب تجربته، ويُعْرِضُ عن أجزاء القصة التفصيلية التي قد لا يحتاجها في هذا الجزء من التجربة الشعرية، فالمهم هو ما في الأجزاء التي يفيد منها من ظلال وإيحاءات مؤثرة في العمل الفني، وما يمكن أن يبدعه أو يُفَرِّعَهُ من صور أو معانٍ جديدة على حواشي هذه القصة وأشباهها في شعره، لقد توسعت هذه الصورة لدى الشاعر وأضاف إليها صوراً جديدة حوّرها يفيدها من الآيات القرآنية في بعض أجزائها، ودمج بعضها الآخر ببعض، فتداعت عليه تأثيرات أجوائها وساعدته على الإبداع على حاشيتها، فبدت لديه صورة اللائمين يلومونه على كثرة زيارات طيف عمان له، فانبرى لهم الشاعر يصدُّهم بقوة لا هوادةَ فيها؛ ما ألجأهم إلى الفرار فرارَ الغنم أمام الذئب المغير:
أخزيتُ فيكَ عواذلي وطرتُهُمْ
طردَ النعاجِ عدا عليها الذيبُ
لقد استدعى الشاعر صورة الذئب - الذي زعم إخوة يوسف أنه أكله - ليوظفها توظيفا مختلفا، فهو يصور لنا قوة إصراره على طرد عاذليه كقوة الذئب وقد عدا على الغنم ما ألجأها إلى الفرار أمامه بفزع وإسراع، فيبدو إصراره القوي المتواصل على نَهْرِ عاذليه في طيف عمّان وطردهم مثل إصرار يعقوب على عدم سماع عاذليه يلومونه على كثرة ذكره يوسف وتمسكه بالأمل في عودته حتى تحقق له ذلك، والشاعر يفيد هذا الإصرار من قوله تعالى يصف تمسك يعقوب بالأمل بعودة ابنه: "قال أبوهم إني لأجدُ ريح يوسف لولا أن تفندون* قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم* فلّما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا* قال ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون".
كما استدعى الشاعر جانباً آخر من جوانب صورة قصة يوسف في القرآن الكريم، فالأحلام التي يرى العزازي فيها عمان بصور جميلة واعدة متأثرةٌ بجانب أو بآخر بحلم يوسف - وقد رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً له ساجدين - أو مستفادة منه، ولكن أحلام العزازي تختلف في أنها ليست كرؤيا يوسف عليه السلام التي حققها الله له بجمع شمله بشمل أمه وأبيه وإخوته بعد السنين الطوال، وإنما هي أحلام تشيب دون أن تتحقق؛ ما يورِّث في نفسه الألم والحسرة:
قد شابَ حُلْمي في هواكِ وخافقي
ويلي من الأحلامِ حينَ تشيبُ!
لقد تصرّف الشاعر في القصة القرآنية وأبدع على حواشيها صورته الشعرية الخاصة التي اكتسبت الأثر الأكبر والجمال الأوفر من ارتباطها بها، واستطاعت هذه القصة أن تنهض بالصورة الشعرية الكبيرة التي أراد الشاعر أن يرسمها لتجربة حياته في الغربة، بما وفرته من إمكانيات خاصة مستقرة في نفسه وفي نفوس المتلقين، وبما قدمته من مساعدة في التعبير عما يريد التعبير عنه بكثافة وقوة، ثم إن الشاعر باتكائه على هذه القصة التي وردت في القرآن الكريم يحاول أن يستعيد بعض التوازن النفسي الذي يفتقده بسبب غربته ومرضه، ممنِّياً نفسه بنهاية مفرحة كنهاية تلك القصة القرآنية، حيث استعاد يعقوب فيها ابنَه وبصرَهُ بوساطة ذلك القميص الذي كان ملازماً ليوسف في كل منعرجات حياته المهمة، فقد جاء إخوته عليه بدم كذب يزعمون أن الذئب قد أكله، وهو الذي أنقذَه الله به وقد قُدَّ من دبر، وهو الذي جاء البشير به ليلقيه على وجه أبيه ليرتد بصيرا. إن الشاعر عندما يتكئ على هذا النص القرآني - مقتبسا منه - يبتعد قليلاً عن الحضور في نصه الشعري، فينحّي عواطفه جانبا، ويدع المجال لهذا المعادل ليعبر عنها وعن انفعالاته دون أن يضطر إلى مزيد من البوح المباشر الذي يمكن أن يقلل من كثافة التعبير الشعري وعمق تأثيره.
إنَّ هذه القصة التي استلهمها الشاعر على ما فيها من طاقة شعورية دفّاقة ومشاعر إنسانية خاصة يحملها الأب الفاقد لابنه المفقود قد أغنت الصورة التي رسمها الشاعر لتجربته الحياتية مع عمان التي يفتقدها ولمعاناته التي يكابدها نتيجة لذلك، وعبرت أيضاً عن حالة شعورية لديه مشابهة لحالة التمسك والتلهف التي ظلَّ يعقوب يبديها تجاه ابنه المفقود، وبالتالي فقد أشعرت المتلقي بمثل هذا الشعور العميق، وكثَّفت له معاناة الشاعر في أبيات قليلة، وبلغت الصورة من الفنية والثراء ما لم تكن لتبلغه لولا صلتها بالآيات القرآنية ومعانيها التي تشير إليها، كما أن أركان القصة في هذه الصورة الشعرية قد انزاحت لدى الشاعر عن معاني القصة القرآنية بشكل أو بآخر، حيث كنا نلمح أركانها لمحاً في أغلب الأحيان. إن الصورة الكبيرة التي رسمها العزازي لنفسه ولعمان متأثراً بهذا النص القرآني تؤكد أن التناصّ وسيلة تواصل بين المنشئ والمتلقي لا يمكن أن يحصل القصد من أي خطاب لغوي دونه.
كما أفاد الشاعر أيضاً من صورة سكراتِ الموت التي يرسمها القرآن الكريم في تصوير ما أصابه من الذهول والخوف الشديدين وهو يغادر عمان، ففي قصيدة "طائر الأشواق" نجد الشاعر يرسم صورته مذهولاً خائفاً والطائرة تقلع به بل تقتلعه منها، يقول:
تجيل طرفا على عمان دوّارا
والدمع يهطل من عينيك مدرارا
حارت عيونك في دار تشيعها
قبل الرحيل ام الأحباب والجارا
لبئس يوم وقفنا كي نودعها
فيه ونلثم أحجارا وأشجارا
فصورة فراق عمان لدى الشاعر تشبه لحظات الموت بسكراته الشديدة وأهواله القاسية، حيث تبدو العيون ذاهلة، دائرة في أرجاء عمان، تنظر إليها - من نافذة الطائرة بخوف واضطراب شديد بدلالة صيغة المبالغة (دوّارا) - نظرَ المغشي عليه من الموت، وفي هذا إشارة لقوله تعالى يصف المنافقين وقد أخذهم الخوف في الحرب: "فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت"، إن الشاعر يفيد من الصورة التي يرسمها القرآن الكريم للخوف والاضطراب. ثم إن هذه العيون التي تودِّعها تبدو هاطلة الدموع (مدرار)، إشارة إلى قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: "قلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا* يرسل السماء عليكم مدرارا"، مبديا كراهيته ليوم فراقها الحزين الذي يودعها فيه، فبئس ذلك اليوم وقد خرج منها بعد أن كان هانئاً فيها، مفيدا هذا المعنى من قوله تعالى: "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان".
ثم يصعد الشاعر بالصورة إلى لحظة الذُّروة مفيداً من الحركة في الأفعال الواردة في الأبيات السابقة، فتبدو صورة مغادرتها كصورة يوم القيامة وقد حان بكل ما فيه من وجيف في القلب وذهول في الّلب:
وحانت الساعةُ الكبرى فما وجفتْ
أرضٌ كقلبك أو مارتْ كما مارا
غداة طارتْ بنا في الجوّ طائرةٌ
وقودُها لوعتي تذكي بها النارا
ولنلاحظ الأفعال الموحية بعدم التماسك، وبالحركة المضطربة التي يحسها الشاعر في البيتين السابقين (حانت الساعة، وجفت، مارت، مارا، طارت، تذكي...النارا) التي تساعد على رسم شعور يوحي بالدوار والمَوْر والاضطراب الذي يشبه صورة لحظات يوم القيامة بما فيه من حركة قوية واضطراب شديد دون أن يكون لدى الشاعر قوة مماثلة يتفادى بها آثار هذا الاضطراب، فهو يكاد أن يكون في لحظة موت أو حالة انشغال بهول موقف الفراق الذي يشبه انشغال الإنسان بنفسه عن غيره يومَ القيامة، تلك (الساعة) التي يضيف الشاعر إليها صفة (الكبرى)، وكأنها بهذا الوصف كما يقول تعالى: "البطشة الكبرى" أو "الطامة الكبرى"، ثم إن الوجيف والاضطراب الشديدين اللذين أصابا قلب الشاعر - كما لم ترجف الأرض يوم القيامة - قد أصاباه والطائرةُ المقلعة تجري به مسرعة مبتعدة عن عمان؛ فيتخيل في خضم مجريات هذا الحدث المفزع عمره يجري إلى نهايته مسرعا جريَ الطائرة المسرعة التي تقلّه، وكذا دموعه الحزينة المسفوحة تجري هي أيضا مسرعة "سيولاً وأنهارا"، لعدم تحمّله أثر هذا الموقف المؤلم الحزين:
العمرُ يجري ودمعي لم يزلْ غَدِقَا
يجري سيولا على خدي وأنهارا
والشاعر يفيد صورة الساعة الكبرى التي يرسمها من غير آية في القرآن الكريم تصف هذا المشهد، بحيث يجمع إفادته منها ويدمجها معا، يقول تعالى: "يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة* قلوب يومئذ واجفة"، ويقول أيضا: "أأمنتم مَنْ في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور". إن العزازي عندما يشير - تلميحا - إلى مشاهد أهوال يوم القيامة لا يقصد هذه المشاهد لذاتها وإنما يريد أن يعبر بطريقة حسية ومكثفة عما يعانيه بسبب هذا الفراق، ولنلاحظ أن ما يرسمه من معاناة قائم في الأصل على التشابه بين مشاهد صورة يوم القيامة كصورة متصورة لدى المتلقي وبين ما ابتدعه من صور أو معانٍ جديدة يريد من المتلقي أن يتصورها، ولكن الأمر في هذه المسألة ليس تطابقا كما نوهنا سابقا، فهو لا يريد مثل هذا التطابق لأنه يقلل من حريته في استعمال ملكته الشعرية ويقلل من أصالته الإبداعية في شعره.
ويُكْمِل الشاعر رسمه صورة الفراق المر هذا بالدعاء عليه بالخسران والبوار، يقول:
تبَّ الرحيلُ وتبّتْ ساعةٌ شَهِِدَتْ
مُرَّ الفراقِ فلا كانا ولا صارا
ويبدو الشاعر حريصا على الإفادة من الأسلوب القرآني الذي يقتبس من آياته، وذلك بتكرار كلمة "تبّ" مرتين كما وردت في قوله تعالى:" تبَّتْ يدا أبي لهبٍ وتب"، إضافة إلى استعماله كثيراً من مفردات الآيات التي تصف هذا المشهد (الساعة، واجفة، تمور).
كما يرسم الشاعر صورة عمان التي تبدو لديه فيها كالجنة الوارفة الظلال، مركّزاً على عبير بساتينها التي اشتهرت بها، فالشاعر يشم رائحتها على الرغم من بعد المسافة بينه وبينها:
يا مرحبا ويا هلا أكرمْ بمَنْ نشرتْ
على الورى طيبَها رَوْحا ورَيْحانا
ومَنْ بأنسامِِِها الرحمنُ أكرمَنـا
وبالشذى من عبيرِ الأهلِ حيّانـا
يا ربِّ في البينِ! إنَّ الأرضَ مقفرةٌ
ولو تدّلتْ بِهِ تينا ورُمّانا
وإنَّ عمانَ عندي جنّةٌ أُنُُفٌ
لو أقفرتْ بقيتْ روضا وبستانا
وهو يفيد هذه الصورة من قوله تعالى: "فأما من كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم"، ولنلاحظ اللفتة الدقيقة التي يفيدها الشاعر من بعض جزئيات الآية التي تشير إلى المقربين الذين يستحقون التقريب من الله تعالى كما يستحقون الروح والريحان في الجنان التي توحي بصورة جديدة لدى الشاعر، فعمان هي جنته التي يتضوّع عطرها وعبيرها "روحا وريحانا"، وقطّانها هم الأهل القريبون من نفسه كما أهل الجنة مقربون من الرحمن، ثم إنها عنده الجنة الأُنُف التي لا يبلى بهاؤها حتى وإن كانت قفراً بلقعا، ولا يعوضه عنها الأرض كلها التي يراها مقفرة "ولو تدلت...تينا ورمانا"، مفيداً هذه الجزئية من الصورة التي يرسمها من قوله تعالى: "فيهما فاكهة ونخل ورمان".
وتتكرر مثل هذه الصورة في شعر الشاعر عندما يصف مدينة جرش، فيذكر جوانب أخرى من الجنة التي يرسمها متأثرا بصورة الجنة في القرآن الكريم، فهي لديه جنة عدن، دانية قطوفها، حورياتها المكنونات كالشموس جمالا، يسبين الألباب والقلوب:
والحُوْر فيها كشمسِ الدجنِ مشرقة
يسبين قلبا وقد يسبين ألبابا
جنات عدن بها من كل دانية
قطوفها وتدلّى الكرم أعنابا
مفيداً الصورة التي يرسمها في البيت الأول من قوله تعالى يصف جمال نساء الجنة: "وحور عين* كأمثال اللؤلؤ المكنون"، ويصف في البيت الثاني ما في الجنة من خير عميم قد ذلل لأهلها مفيداً فيه معنى القطوف الدانية المتدلية عليهم من كل جانب من قوله تعالى: "ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا".
ثم إن جمال عمان ليكاد أن يفتنه حتى يتحير في جوهرها، أهي من الأنس المنعمين في جنات الأرض أم هي حورية من حوريات الجنة:
أأنتِ إنسيّةٌ في الخلدِ مربعُها؟
أمْ أنتِ حوريّةٌ من جنةِ الخلدِ؟
مفيدا هذه الصورة من صورة حوريات الجنة اللواتي وصفهن الله تعالى في بعض آيات القرآن الكريم قائلا: "حور مقصورات في الخيام".
ويرسم الشاعر صورة جميلة لأبناء الأردن عامة متوشِّحة بالإباء والشموخ، واصفاً إيَّاهم بكل مشرِّف من الصفات، وذلك في معرض تنويهه بهم في قصيدة "ربعي" مفيدا بعض أجزاء صورتهم من بعض آيات القرآن الكريم، يقول:
ضاقتْ على رحبِها الدنيا عليكَ فلا
ملاذَ إلا بنا أو عفوَ مقتدرِ
شمُّ العرانين نأبى الضيمَ إنْ نزلتْ
بنا الكريهةُ كنَّا ثُبَّتَ الغُدُرِ
أسمى من الفرقدِ الدُّرّيِّ هامتنُا
قيدُ الأوابدِ إنْ ناديتَ للظفر
وتبدو هذه الصورة الجزئية من صورة أهل الأردن التي يرسمها الشاعر كأنها نشيد خاص، يرسم من خلاله صورتهم التي يبدو أنه يفيد بعض أجزائها من معاني بعض آيات القرآن الكريم كما بدت في الأبيات السابقة، ففي البيت الأول يشير إلى شدة بأسهم على أعدائهم حتى لتضيق عليهم الأرض بما رحبت، فلا يعود ينفعهم إلا الاعتذار إليهم، أو أن يلوذوا بهم تائبين، أو أن يعفو أهل الأردن عنهم بعد أن يكونوا قد ظفروا بهم، والشاعر يفيد معناه هذا من قوله تعالى: "حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم"، وقوله تعالى: "إن تُبْدُوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوّا قديرا"، وقوله تعالى: "وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين"، وفي البيت الثاني نجد الشاعر يولّد بعض معناه من قوله تعالى: "كُتِبَ عليكم القتال وهو كره لكم"، فقد وصف القرآن القتال بأنه كره، كما سمّى العربُ الحربَ أيضا كريهة، ولكنهم كانوا يقارفونها دفاعاً عن النفس وإباء للضيم. وقد جعل الشاعر هامات أهل الأردن في قصيدة "ربعي" تعلو على الكوكب الدرّي الذي ذكره الله تعالى في سورة النور، فبدت هاماتهم أعلى من النجوم، و"أسمى من الفرقد الدري"، مفيدا هذه الصورة من قوله تعالى في وصف نوره: "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري"، والشاعر يتصرف كما نرى في معاني أبياته فيجمع المعاني القرآنية الكثيرة معا مفيدا منها في رسم صورة شعرية كبيرة.
وللمفردات القرآنية فائدة كبيرة تكمن في مساعدتها على تداعي المعاني والصور في مخيلة المتلقي ذي الثقافة القرآنية مثلما كانت قبل ذلك لدى الشاعر، كما أنها تجعل المدلول الشعري أوسع معنى وأكثر غنى من دلالته دونها، خصوصا عندما يُنظر إلى البناء المعنوي الأعمق - بما فيه من إيحاء وقوة تصوير وعمق في التخييل - وليس إلى البناء الصياغي السطحي، فالشاعر عندما يريد أن يعبر عن شدة حزنه بسبب وفاة أبيه فإنه يرثيه بقصيدة "صَدْعُ النوى"، التي يقول في بعض أبياتها:
يا حزنَ هذا الدهرِ بعدَكَ إنّهُ
فقدَ الجوادَ السيِّدَ البهلولا
فأراهُ مُخْضَلَّ الرموشِ كأنَّهُ
يبكيْكَ مثلي بكرةً وأصيلا
وهو يتأثر في عجز البيت الثاني بقوله تعالى: "وسبِّحوه بكرة وأصيلا"، فكلمتا (بكرة وأصيلا) بتجاورهما وباقترانهما الدائم في النص القرآني تؤثران في المعنى المقصود في البيت وفي القصيدة بشكل عام، فقد أخذت المفردتان في القرآن الكريم دلالة تعطي معنى التلازم في البناء الصياغي والدوام في التسبيح والعبادة، وبذلك فقد أفاد العزازي من هذا الاقتران فكرة ملازمةَ الحزن له بسبب موت أبيه الذي يحسُّ أنه يلازمه ملازمةَ مفردةِ "بكرة" لمفردة "أصيل"، ومثل هذا التجاور في المفردات نجده كثيرا في شعر العزازي، حيث يعطيها نفَسَاً وإيحاء جديدين يتفقان وسياق القصيدة التي تحمل تجربته الشعرية، وإن كان يعمل على تغيير طبيعة هذا الاقتران أحياناً لضرورات القافية أو ما إلى ذلك من ضرورات أخرى.
وتبدو الألفاظ القرآنية مؤثرة في شعر العزازي في موضع آخر، خاصة من خلال إيحاء اقترانها بعضها ببعض في النص القرآني وأثر ذلك في شعر الشاعر، فهو يقول لابنته وقد جاءت تزوره في المستشفى تحمل له باقة من الورد شذية:
يا عيوني أنتِ يا سلمى وما
خلقَ الباري كسلمى ثم سوّى
مفيدا هذا المعنى من قوله تعالى: "سبَّح اسم ربِّك الأعلى* الذي خلق فسوّى" مبينا قدرته تعالى على الخلق عامة، ومن قوله تعالى أيضا مبينا قدرته على خلق الإنسان في أحسن تقويم: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، وقوله أيضا: "الذي خلقك فسوَّاك فعدلك"، فسلمى هي ابنته التي خلقها الله بصورة لا تضاهيها عند الشاعر صورة أخرى، وبذلك فقد أحال الشاعر في هذا الموقف العاطفي اللغةَ إلى شعور – مثلما يفعل الشعراء العذريون - وانفعال مباشر، ثم عمل على تحويل هذا الشعور وهذا الانفعال إلى لغة شعرية، وبالتالي استطاع توصيل عاطفته إلى المتلقي من خلال النص الجديد المتأثر بالآيات القرآنية.
وفي قصيدة "صبا عمان" يستحضر الشاعر من المفردات ما يوحي بالإفادة من آيات القرآن الكريم في رسمه صورة عمان متأثرة بها في بعض جزئياتها، فنجده يلوم نفسه على بعده عنها جاعلاً مثل هذا البعد دليلاً على قول كاذب وحب مدّعى لها:
والبعدُ يا ربِّ زورٌ في محبّتِها
يظلُّ في أحسنِ الأحوالِ بهتانا
وقربُها صلةُ الأرحامِ منزلةً
هدى ونورا لمن يهوى وإيمانا
والشاعر كما نرى يفيد معاني البيتين من آيات عديدة فبعدُهُ عن عمان "زور في محبتها"، يقول تعالى: "إنهم ليقولون منكرا من القول وزورا"، كما يقول الله تعالى أيضا: "ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبينا"، والشاعر يحس أنه قد اكتسب مثل هذه الخطيئة الكبيرة والإثم المبين ببعده عنها، في حين يرى أن صلتها والقرب منها صلة رحم يؤديها، حيث تبدو عمان رَحِمَهُ التي يجب عليه وصله، ليكون هذا الوصل هاديا له من أن يضِل، ونورا ينير له الطريق، وإيمانا يعمر قلبه، آخذا هذا المعنى من الألفاظ الموحية بذلك في قوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام".
وقد وردت كثير من المعاني القرآنية الجزئية في شعر العزازي، فقد ثَقِفَ هذه المعاني، وأفادها من آيات القرآن الكريم باعتباره المصدر الأساسي لثقافته الدينية، ففي معرض وصفه لشوقه إلى الوطن يصوره الشاعر مكاناً مباركاً شرَّفَهُ الله بالإسراء وبكونه مهد الرسالات السماوية ومنطلقها، ففي قصيدة "بُشرى" يقول:
ثرى تباركَ بالإسراءِ وانبعثتْ
منهُ الرسالاتُ تهدي عابدَ الوثنِ
متأثرا بقوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنَّه هو السَّميع البصير"، فالأردن - ومنه عمان - من الأرض التي باركها الله حول المسجد الأقصى، وهو أرض رباط انطلقت منه جيوش المسلمين تحمل رسالة الإسلام، كما خرجت منه قبل ذلك – باعتباره من الأرض المباركة - الرسالات السماوية الأخرى إلى أرجاء الأرض المختلفة، ولولا ورود هذه الآية في القرآن الكريم ما كان للشاعر أن يذكرها في شعره.
ومن الملاحظ أن التجليات الدينية في شعر العزازي قد كانت مقتصرة على الدين الإسلامي، اللهم إلا إشارة واحدة إلى الكتاب المقدس (الإنجيل) جاءت مقترنة بالإشارة إلى القرآن الكريم:
ولمْ بعمانَ تُؤلي دائما قسما
كأنَّ عمانَ إنجيلٌ وقرآنُ
مفيدا القَسَمَ بالقرآن من آيات القرآن الكريم التي يقسم الله فيها بكتابه، قال تعالى: "والقرآن الحكيم"، وقال تعالى أيضا: "ص* والقرآن ذي الذكر"، فالشاعر يفيد قسمه بالقرآن من قَسَمِ الله سبحانه وتعالى به، وذلك لجلالة قدره، مضيفا إليه الإنجيل باعتباره كتابا سماويا مقدسا آخر، فعمان تبلغ عنده من القداسة شأوا عاليا ما يجعله يحلف بها، وتتردد على لسانه بما يشبه ترديد القرآن على ألسنة المسلمين، والشاعر كما نلاحظ لا يفصّل في هذا الموقف وإنما يذكر القرآن والإنجيل بإشارة توحي بأهمية عمان لديه التي يشبهها بهما "كأنَّ عمان إنجيل وقرآن"، تاركاً للمتلقي تخيل عظم هذه القداسة التي تتمتع بها لديه لارتباطها بهذين الكتابين.
ويبدو الشاعر متهجداً يلهج بذكر عمان، حتى إذا انطوى الليل واقترب الفجر قام يردد ذكرها وِرْدَاً من النجوى والابتهال، حتى يأخذه الانفعال ويستغرقه الشوق إليها فيبكي منتحبا لفراقها:
بها تهجَّدَ ليلا حينَ نسمعُهُ
إذا انطوى الليلُ ألفيناهُ منتحبا
آخذا هذا المعنى من قوله تعالى: "ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا".
ويصور الشاعر بعض ألمه بسبب فراقه عمان وعدم تمكنه من القدوم إليها وذلك في قصيدة "تأشيرة"، مؤكدا أن الفراق غير مقبول لديه، وأنه ليس له ما يبرره عنده، فهو لا يؤمن به أصلا، بل إنه ليعده لقيطاً مكروها، وحالة ملعونة:
كأنَّ هذا النوى ليسَ ابنَ زانيةٍ
ولا مرارا لَعَنَّاهُ وتكرارا
مفيدا فكرة اللعن في البيت السابق من آيات الملاعنة في القرآن الكريم، قال تعالى: "والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين* والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين* ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين* والخامسة أنَّ غضب الله عليها إنْ كان من الصادقين"، ولنلاحظ أن الشاعر يعوّض عن التكرار اللفظي في شهادة الملاعنة في آيات القرآن الكريم بتكرار كلمتي "مِرارا...وتكرارا" في بيت الشعر الذي أورده.
ثم إنه ليخاطب عمان طالباً المعذرة منها على فراقه لها حيث كانت السنوات التي قضاها بعيداً عنها سنوات تيه وعمراً ضائعا:
بلى وربِّكِ يا عمانُ معذرةً
فلا تعدّي سنيَّ التيهِ من عُمْرِي
مفيدا ذلك من قوله تعالى يصف بني إسرائيل وقد أضلهم في صحراء التيه بعد أن رفضوا أمره بدخول الأرض المقدسة: "قال إنها محرَّمة عليكم أربعين سنة تتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين"، وكأني بالشاعر يحس أن الله قد حرمه من عمان أو حرّمها عليه بسبب اغترابه عنها؛ فكان جزاؤه أن جعله يتيه في الأمصار البعيدة عقابا له على تركه لها وخروجه منها، وإن الشاعر بسبب هذا الشعور ليكثر من الاعتذار - بل التوبة - عن اغترابه عن عمان حتى أنه ليوصي ابنته محلّفا إياها بالله أن تجتهد في الدفاع عنه بعد موته إذا ما لائم لامه على اغترابه عنها:
باللهِ يا سلمى إذا ما عاتبٌ عَتِبا
على الفراقِ ولم يعرفْ لهُ سببا
قولي أبي كانتْ الأشواقُ تحرقُهُ
فكانَ في شوقهِ النيرانَ والحَطَبَا
عمّانُ كانتْ له لحناً وأغنيةً
وكانتْ الأمَّ والأردنُّ كانَ أبا
قولي سُلَيمى كمْ استحلفْتُُهُ بهما
من أجلِ عينيهما ما ردَّ لي طلبا
وقد يكون الشاعر أفاد هذا المعنى من قوله تعالى: "يحلفون لكم لترضوا عنهم"، وإني لأرى أن أكبر غاية للشاعر من طلبه الغريب هذا هو أن يرضي نفسه، وأن يجد لها العذر أو المبرر الذي ألجأه إلى الاغتراب عنها، وأن يؤكد لنفسه أولاً ولمن قد يتساءل عن قصته معها أنه على الرغم من اغترابه عنها قد ظلَّ متمسكاً بها لاهجاً بذكرها حتى آخر أيام حياته بل لما بعد ذلك، حيث يتصور نفسه وقد غادر الدنيا إلى حياة أخرى، وكما كان الشاعر يحلف بها وبالأردن فقد كان يُحَلَّفُ بهما أيضا، لما لهما من قيمة خاصة في نفسه.
إننا نستطيع أن نحيل كثيراً من تجليات الصورة الشعرية التي يرسمها العزازي في كثير من شعره إلى الآيات القرآنية، سواء أكانت معاني تبدو بشكل واضح أو تحتاج إلى استنتاج واستبطان، كما أنه قد أبدع أحيانا بعض الصور التي يبنيها على أساس من النص القرآني ولكن بأَخْذٍ بعيد، ففي قصيدة "سلوت عمان" يخترع الشاعر مصطلح "وادي الشوق"، حيث يجعل للشوق الذي يعانيه لعمان واديا يهيم فيه كأودية الشعراء الجاهليين الذين أشار القرآن الكريم إليها، والتي كانوا يهيمون فيها لهوا وغواية، يقول:
وما لعيشِكَ مهما ذقتَ من رَغَدٍ
طعمٌ وأنتَ بوادي الشوقِ هيمانُ؟
فالشاعر يفيد هذا المعنى (المصطلح) ويولده من قوله تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون"، ولكنه لا يهيم في هذا الوادي لاهياً غاويا، وإنما محترقاً فيه بأشواقه إلى عمان، متألماً لهضمه حقها الذي لها عنده ببعده عنها. لقد عُني الشاعر بموضوع الاقتباس في شعره، ووردت إشارات عديدة إليه في ديوانه تلميحاً وتحويراً وتوليداً...إلخ.
- الحديث النبوي الشريف:
أفاد الشاعر من الحديث النبوي الشريف في شعره مثلما أفاد من القرآن الكريم وإن كانت إفادته منه بشكل أقل، ليس لأن الحديث أقل أهمية، وإنما لاكتفائه بالاقتباس من آيات القرآن الكريم لما لها من رسوخ في لاشعور الشاعر والمتلقي معا، ففي قصيدة "باري القوس" يمدح الشاعر الملك الحسين بن طلال منوها إلى أنه من أسباط رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
مَنْ كانَ سِبْطَ رسولِ اللهِ حُقَّ لَهُ
إنْ شاءَ أنْ يَهَبَ الدنيا وما فيها
مفيدا هذا المعنى من كون الحسين بن طلال يرتفع بنسبه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما سبطِ رسول الله، ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "الحسين سبط من الأسباط".
كما أفاد من حديث رسول الله أيضا في موضع آخر مؤكداً على وجوب القرب من عمان ووجوب عدم الابتعاد عنها، إذ ادَّعاءُ محبتها مع البعد عنها زور وبهتان، في حين يرى الشاعر القربَ منها مودة وصلة أرحام:
والبعدُ يا ربِّ زورٌ في محبتِها
يظلُّ في أحسنِ الأحوالِ بهتانا
وقربُها صلةُ الأرحامِ منزلةً
هدىً ونورا لمَنْ يهوى وإيمانا
وهو يفيد هذه المعاني من أحاديث رسول الله يحضُّ ملحّاً على صلة الرحم وعدم القطيعة، يقول صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأََ له في أثَره فليصلْ رحمه"، ويقول أيضا: "لا يدخل الجنة قاطع رحم"، و"الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله"، وهذه المعاني وإن كان بعضها قد ورد في الصور التي يرسمها الشاعر مقتبساً من آيات القرآن الكريم - كما أسلفنا - إلا أنه قد يكون أفادها أيضا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة عندما تتشابه المعاني بين المصدرين الكريمين اللذين تأثر بهما الشاعر.
وفي موضع آخر يصور الشاعر محبته لعمان وللأردن عامة، مشيراً إلى أن ذكرهما يبدو كنفحات المسك ينشرها حامله حيثما أقام وأينما حلّ، يقول:
يا ذكرَ عمانَ والأردنَ قاطبةً
ما زرْتَ إلا حَسِبْنا الضيفَ عطّارا
وفي هذا إشارة إلى جزء من حديث رسول الله يصف الجليس الصالح بحامل المسك، يقول صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة"، والشاعر بذلك يجعل ذكر "عمان والأردن قاطبة" عطّاراً يجد منه الشاعر كل ريح طيبة وكل عطر شذي.
لقد كان الشاعر يؤثر التلميح في إفادته من نصوص الحديث النبوي الشريف مثلما كان ذلك في آيات القرآن الكريم، وكانت إشاراته إليها تتميز بالقلة والجزئية وعدم الاستقصاء، وهذا أمر طبيعي، فليست هذه وظيفة الشعر أو مهمة الشاعر، فهو يلمّح ولا يصرح، ويكتفي بالتكثيف دون التفصيل.
التراث الشعري:
إن تضمين العزازي شعره بعض أبيات الشعر العربي التراثي يدل على قدرة في تمثّل هذا الشعر، وعلى قدرة في توظيفه في شعره توظيفاً معنوياً وفنيا، هذه التضمينات التي اندغمت مع النص المُبدَع فصارت رافداً له في الجانب المعنوي وجزءاً منه في البناء الفني، وعاملاً مؤثراً لدى الشاعر في الجانب النفسي الذي ساعده على التعبير عن مشاعره التي أحسها، ومن المسلّم به أن العزازي ما كان ليستدعي مثل هذا الشعر التراثي في شعره الإبداعي لو لم يكن هناك اشتراك في مقوّم أو مقومات عديدة بين النصوص الشعرية التراثية المستدعاة ونصوصه الإبداعية التي تأثرت بهذا التراث، ولكن الشاعر لا يلح على الجزئيات الكثيرة المشتركة التي يمكن توافرها بين هذه النصوص التراثية ونصوصه الشعرية، ومن المعروف أنه كلما قلَّ الاشتراك في المقومات بين النصين التراثي والمبدع زاد التميّز وظهرت الأصالة الإبداعية في النص الجديد، وكلما زادت هذه المقومات أصبح النص الجديد نسخة مكررة عن النص القديم، فاقدا لمثل هذه الميزة، مع ملاحظة صعوبة مهمة الشاعر في الإفادة من هذه النصوص المقتبسة، فهي نصوص ناجزة، موظفة في أغراض مخصوصة، ومتجلّية في معان محددة وسياقات خاصة، لا يستطيع الإفادة منها إلا مَنْ أوتي قسطاً وافراً من القدرة الفنية والشاعرية المتميّزة، وبذلك فقد كان تأثر العزازي بالشعر العربي التراثي تأثراً خلاقا، إذ جاءت قصائده تجمع بين معرفته الشعرية التراثية من جهة وبين قدرته الذاتية على الإبداع الفني المتميز متأثراً بهذا اللون من التراث، وبذلك فقد اكتسب الشاعر صفتين مهمتين فيما قاله من شعر: الأولى تتمثل في الأصالة التي تساير طبيعة الشعر العربي القديم وعموده، والثانية الأصالة الإبداعية التي تظهر إمكانيات الشاعر الإبداعية الذاتية متأثرة بهذا التراث. وقد جاءت تضمينات الشعر التراثي في شعر العزازي على نوعين:
الأول - التضمين المباشر:
ضمّن الشاعر شعره كله بيتاً شعرياً تراثياً واحداً بنصه دون تغيير جوهري، وذلك في قصيدة "صبا عمان"، وقد يكون الشاعر بنى قصيدته صادراً عنه أو متكئاً على إيقاع القصيدة التي أخذه منها، فكان هذا البيت حافزاً على القول، أو منطلقاً له ينطلق منه الشاعر إلى آفاق جديدة في هذه القصيدة، يقول:
قدْ كنتُ أشفقُ من دمعي على بصري
فاليومَ كلُّ عزيزٍ بعدَ[هَا] هانا
والبيت لأبي الطيب المتنبي وروايته في ديوانه:
قدْ كنتُ أشفقُ من دمعي على بصري
فاليومَ كلُّ عزيزٍ بعدَكُمْ هانا
يذكره العزازي في نهاية قصيدته بتغيير بسيط، فقد استبدل الضمير [ها] في "بعدها" الدالَّ على عمان بالضمير [كم] في "بعدكم" الذي أورده المتنبي في بيته وأشار فيه إلى ممدوحه أبي سهل سعيد ابن عبدالله، والمعنى في بيت المتنبي كما يقول الواحدي: إن الشاعر كان يخاف على بصره من البكاء، فلما فارق ممدوحه هان عليه كل عزيز لِبُعْدِهِ عنه، وقد أفاد العزازي هذا المعنى من هذا البيت ولم يغير فيه شيئاً جوهريا؛ وذلك لانطباقه على حالته، فهو بعد فراقه عمان لم يعد يعبأ بأي شيء، كما أفاد من هذه القصيدة التي يرد فيها هذا البيت: بحرها وقافيتها وجوّها النفسي الذي يدعو إلى الشوق الحزين، ولكنه أبدع قصيدته في باقي أبياتها بمعانٍ مختلفة، متناسبة مع تجربته الشعرية الخاصة التي تَصَوَّرَ فيها صَبا عمان يهبُّ عليه؛ فتهب بسبب ذلك أشواقه الحارّة إليها. ويبدو أن هذا البيت الشعري التراثي هو ما صدر عنه الشاعر في قصيدته، وقد يكون البيت الشعري الأول في عملية إبداعها وإن كان قد جاء في آخرها من حيث الموقع.
الثاني - التضمين غير المباشر:
تجلى هذا اللون من التضمين في إشارات وتلميحات متمثّلة في الكلمة أو الجملة أو المقطع الشعري وهذا هو الغالب في شعر العزازي، مؤثراً الإشارة والتلميح على النص الحرفي الكامل، أو مضيفا إليهما معاني جديدة من إبداعه، فهو يشير إلى مقاطع شعرية تراثية لشعراء عرب قدماء أفاد منها فوظّفها بما يتناسب مع تجربته الشعرية، يقول في معرض مدحه للملك الحسين بن طلال:
قالوا الهدايا على أقدارِ مهديْها
ما أحسنوا للهدايا أو لمعطيها
تسابقَ العُرْبُ للعلياءِ قلتُ لهمْ:
هذا الحسينُ فأعطوا القوسَ باريها
والشاعر في بيتيه هذين يفيد بعض معانيهما من شعر لمحمد بن حمير الهمذاني يقول فيه:
واليومَ يقبضُ عِقْدَ الأمرِ صاحبُهُ
مِنْ قبلِ ذا ويحوزُ القوسَ باريها
لا يبعدنْكَ إلهُ الخلقِ مِنْ رجلٍ
مطعامةً يهبُ الدنيا وما فيها
فهو يشير إلى الملك الحسين، الذي يصفه بالكرم "يهب الدنيا وما فيها"، وبالجدارة بالعلياء، وبحسن تدبير الأمور وسياستها، فهو "باري القوس". ونجد بعض الجمل متطابقة بين شعر العزازي وشعر الهمذاني تطابقاً تاماً "يهب الدنيا وما فيها"، أو فيها بعض تغيير بسيط غير مؤثر "أعطوا القوس باريها" بدل "ويحوز القوس باريها".
وقد ظهرت قصة يوسف عليه السلام في التضمين الشعري لدى العزازي مثلما ظهرت في مواضع أخرى، ففد أفاد من بعض الأشعار العربية التراثية التي أشارت إلى هذه القصة في قصيدة "قميص يوسف"، يقول:
يا ضيفَ جفني لا عدمتُ نزولَكمْ
حتى وأنتَ الزائرُ المكذوبُ
أنتَ القميصُ وقد أتى من يوسفٍ
وأنا بفرحةِ لثمِهِ يعقوبُ
أخزيتُ فيْكَ عواذلي وطردتُهُمْ
طردَ النعاجِ عدا عليها الذيبُ
قدْ شابَ حلمي في هواكِ وخافقي
ويلي من الأحلامِ حينَ تشيبُ
وقد يكون الشاعر يفيد بعض معاني أبياته من قصيدة لابن السيد البطليوسي الأندلسي (ت521هـ) يصور فيها كتابا وصله وقد تحققت فيه أمانيه برضا مَنْ يحب؛ فكان ذلك الكتاب كقميص يوسف وقد ألقي على وجه يعقوب، ما حقق له الرضا والفرح بعودة ابنه بعد غياب، وأعاد إليه بصره بعد ذهاب، يقول:
نفسي فداءُ كتابٍ حازَ كلَّ منىً
جاءَ الرسولُ بهِ من عندِ محبوبي
مبشِّرا أن ذاكَ السُخْطَ عادَ رضىً
وبُدِّلْتُ منْهُ مِنْ بُعْدٍ بتقريب
ظللتُ أطويِهِِِ من وَجْدٍ وأنشرُهُ
وكادَ يبليِهِ تقبيلي وتقليبي
كمْ قُبْلَةٍ لي في عنوانِهِ عَذُبَتْ!
وبرّدَتْ باللظى حَرَّ تعذيبي!
كأنَهُ حينَ جلّى الحُزْنَ عن خَلَدِي
قميصُ يوسفَ في أجفانِ يعقوبِ
لو كانَ ما فيهِ من موعودِهِ كَذِبَا
شفى، فكيفَ بوعدٍ غيرِ مكذوبِ؟
ولنلاحظ تشابه البحر والقافية والجو النفسي العام بين القصيدتين وإن اختلفت حركة القافية الإعرابية بينهما، ولنلاحظ أيضا تشابه كثير من المعاني التي أفادها العزازي من قصيدة البطليوسي، فطيف عمان الذي يزور العزازي يبدو مقابلاً للكتاب الذي أتى البطليوسي، والكتاب نفسه يحمله الرسول كما يحمل طيفُ الخيال عمانَ إلى العزازي، وبكتاب ابن السيد يتبدل كربُه فرجاً وسخطُ محبوبه عليه رضا، وبعده عنه قربا؛ وحرَّ قلبه برّدا، وحزنه فرحا، مثلما يحمل طيفُ الخيال - ضيفُ جفن العزازي – عمانَ إليه فيمنحه الفرح والسعادة، حتى وإن كان طيفها "الزائر المكذوب"، هذا الطيف الذي ورد في بيت العزازي يشير إلى تأثره ببيت البطليوسي في بعض معناه، فالإشارة إلى أنه كذب عند العزازي يقابله المعنى نفسه عند البطليوسي وإن كان الأمر بشكل مختلف، فهو يشير إلى أنه يشفي حتى و"لو كان ما فيه من موعوده كذبا". كما بدت صورة طيف عمان عند العزازي "القميص" يرسله يوسف لأبيه، وهو "يعقوب" الفرح يلثم ذلك القميص؛ متأثرة بصورة الكتاب عند البطليوسي: يطويه وينشره، يقبِّله ويقلِّبه.
وفي معرض افتخار الشاعر بأهله من أبناء الأردن في قصيدة "ربعي" يقول:
يا قوميَ الصيدَ لولا أنَّكم بشرٌ
قالوا من الطهرِ ما أنتمْ من البَشَرِ
إن الشاعر ليرتفع بربعه عالياً فلا يعودون من البشر العاديين وإنما من البشر المطهرين، بل من الطهر نفسه، مستعملاً المصدر – الأكثر دلالة - في وصفهم، مفيداً هذه الصورة من صورةِ شيخ ابن حجر العسقلاني – وقد رثاه - الذي بدا بصورة مَلَكٍ مطهّر:
اللهُُ أكبرُ ما هذا سوى مَلَكٍ
وحاشا للهِ ما هذا من البَشَرِ
ويقول العزازي يصف الطائرة المقلعة به من عمان التي تبدو لديه بصورة العنقاء، مشيراً إلى يأسه من إمكانية عودته إليها بعد اختطافها له، وبعد تحوّل حنظلة إلى طيار يقودها، بعد أن كان نبياً يدعو عليها بالهلاك ليخلص الناس من شرورها:
ما كنتُ أحسبُها عنقاءَ مغربةً
أو أنَّ حنظلةَ قد صارَ طيارا
والشاعر يفيد معناه هذا من قول الحادرة الضبعي يصور عقيل بن مالك النميري وقد قتل في يوم شواحط، يقول:
كأنَّ عقيلاً في الضحى حلّقتْ بِهِ
وطارتْ بِهِ في الجوِّ عنقاءُ مغربُ
إشارة إلى موته، وإلى عدم تمكنه من الرجوع، مكرراً فعل الطيران بصورتين متتاليتين، فقد "حلقت به، وطارت به...عنقاءُ مغرب"، وقد يكون الشاعر أَخَذَ هذا المعنى من معنى بيت أبي الطيب المتنبي يتمنى جناح عنقاء مغرب يطير به إلى أهله، ويتخلص به من محنته لدى كافور:
أحنُّ إلى أهلي وأهوى لقاءَهم
وأينَ من المشتاقِ عنقاءُ مغربُ
والشاعر من فرط حبه عمان لا يرضى لها بدلا، فهو على الرغم من عيشه في بلاد الخضرة الدائمة والزهور المتفتحة والطبيعة الساحرة، لا يرى الجمال إلا فيها حتى وإن كانت قفراً بلقعا، يقول في قصيدة "صبا عمان":
يا ربِّ في البين! إنَّ الأرضَ مقفرةٌ
ولو تدلّتْ بِهِ تينا ورمّانا
وإنَّ عمّانَ عندي جنّةُ أُنُفٌ
لو أقفرتْ بقيتْ روضا وبستانا
وهو يولّد هذا المعنى في البيتين السابقين من قول بشار بن برد:
لا أشتهي بهواهُ جنَّةً أُنُفَاً
ولو تدلّتْ لنا تينا وأعنابا
كما أفاد العزازي في أحد أبيات قصيدة "باقة":
حينَ غابَ النورُ عيني شاهدتْ منْكِ عبرَ الأذنِ أحلى ما بحوّا
من بيت بشار بن برد:
يا قومُ أذني لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ
والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانا
فقد أصبح يرى جمال طفلته من خلال صوتها الذي يسمعه بعد أن صار كفيفا.
وهناك إشارات غير مباشرة في شعر العزازي إلى جزئيات من التراث الشعري العربي، من مثل إشارته إلى "صبا عمان" التي أفادها من "صبا نجد"، التي يذكرها ابن الدمينة في شعره، أو إشارته إلى فكرة المعلقات والتعليق المعروفة في الشعر الجاهلي، فعمان قصيدة الشاعر التي يبدعها، ومعلقته التي يعلقها برموش عينيه، وهذا لون جديد من التعليق يجترحه الشاعر:
كانتْ قصيدتَهُ كانتْ معلقةً
على الرموشِ تناجي الجفنَ والهُدُبَا
وبالإجمال فإن العزازي في ضوء تأثره بالشعر العربي التراثي لم يخرج في شعره على عروض الخليل، فقد جاء شعره موقّعاً على البحور الشعرية العربية المعروفة، في قالب غنائي كلاسيكي، عدا قصيدتين، الأولى جاءت على نمط يشبه المخمسات، وهي سائرة على عروض الخليل، والأخرى من الشعر الحر،
وعلى الرغم من أن القصائد الغنائية في كل العصور تخاطب الأذن إلا أن ظهور الكتابة والطباعة قد أدَّيا إلى ازدياد الميل نحو مخاطبة الأذن من خلال العين، باعتبار أن القارئ يرى في أبيات الشعر صدراً وعجزاً وضرباً وعروضاً وقافية...إلخ.
ويلاحظ أن (15) قصيدة من شعر العزازي قد جاءت مصرّعة، ويبدو أن الشاعر قد وجد في إيقاع التصريع ما يساعده على التعبير عن المشاعر الجيّاشة التي يحسها من أول بيت في القصيدة، وإلى ما يحدثه الصوت المتكرر في نهاية شطري البيت من التلاحم بينهما حتى يكونا كمصراعي الباب، وإلى ما يحدثه التصريع كذلك من إشباع التوقع لدى المتلقي، لأن البداية الإيقاعية في الشطر الأول (العروض) تنبئ عن نهاية الشطر الثاني (الضرب)، إضافة إلى أن الوزن يفرض بنية فنية من التوازي، فالوحدة النغمية وتكرار البيت بأجزائه العروضية التي تكونّه تقتضي من عناصر الدلالة النحوية والمعجمية توزيعاً متوازياً يحظى الصوت فيه بالأسبقية على الدلالة المعنوية، وتزدوج وظيفة هذا الإيقاع السجعي التصريعي في الشعر، فهو يمارس إيقاعه منفرداً في البيت الواحد، ثم يمارسه من خلال الإيقاع الشعري الكلي الذي يُضْعِف من حدته، وإن ظلَّ للوظيفة دورها الأساسي داخل الإيقاع العام، حيث يرفد كل منهما الآخر، وحتى قصيدة "أين المفر؟" التي جاءت على نمط الشعر الحر فإن الشاعر قد عوّض فيها عن إيقاع التصريع بتكرار حرف الراء المُسَكَّنة في نهايات معظم الأسطر في القصيدة.
كما نلاحظ أيضاً أن معظم قصائد الشاعر قد تركزت في البحر البسيط، فجاءت (15) قصيدة منها على عروض هذا البحر، ويبدو لي أن الموسيقى الشجية لهذا البحر قد ساعدته على بث عواطفه الحزينة منغّمةً عليها، في حين جاءت قصيدتان من شعره على البحر الكامل وواحدة على مجزوئه، وقصيدة على البحر الرمل وأخرى على مجزوئه، وقصيدة على البحر الخفيف، وقصيدة على البحر المجتث.
وما تجدر ملاحظته أن الشاعر على الرغم من تأثره بالتراث الشعري العربي وظهور تجلياته في شعره لم يعارض أو يشطر أو يخمّس قصائد تراثية، كما نلاحظ اقتصار تأثر شعره بالشعر العربي دون الشعر الأوروبي الذي كان يعيش في بلاده، ويتقن العديد من لغاته، عدا قصيدة قصيرة سماها "أين الزهور".
الأمثال:
شرط استعمال الأمثال في الشعر أن لا تغير ألفاظها، لأن المثل أصبح كالعَلَم، ولكن التجربة الشعرية والسياق الشعري قد يتطلبان تغييراً ما يوفر التناسب بينهما وبين المثل، وقد أفاد العزازي من الأمثال العربية في شعره بشكل عام، ولكنه لم يكثر من استعمالها أو يتعسف في طلبها، كما أنه لم يأت بها هدفاً مقصوداً أو موضوعاً شعرياً مستقلاً في ديوانه، وإنما جاءت في سياق القصيدة بشكل سلس ومتداخل مع التجربة الشعرية، غير نافرة منها ولا بعيدة عنها.
والشاعر ينطلق في كثير من شعره من تجارب مأساوية مرتكزة في كثير منها على الفقد والحرمان وألم الغربة؛ وعليه فقد جاءت كثير من التجليات التراثية لديه بشكل عام وثيقة الصلة بمثل هذا الشعور ومن ذلك الأمثال، فقد دعته مثل هذه المشاعر وهذه التجارب إلى أن يعبر عنها من خلال الأمثال المناسبة، لما فيها من قدرة على إصابة المعنى الشعري وتكثيفه، ولما فيها من حسن التشبيه، وقوة الصياغة، والاتصاف بالإيجاز، وقد فصّل الشاعر في بعضها عند إيرادها في شعره، يقول في قصيدة "صبا عمان":
يا ربِّ صرتُ بهذا البينِ أحيرَ من ضبٍّ وإنْ لمْ أجارِ الضبَّ نسيانا!
فذكرَ الشاعر المثل "أحير من ضبّ"، وشكا فيه الحيرة وعدم الاهتداء، ودعا الله ملتمسا (يا ربِّ,) أن اجعلْ لهذا البعد نهاية، وأضاف إلى أصل المثل جانباً من تجربته الحياتية الشخصية، وذلك أنه لم يجار "الضب نسيانا"؛ ما ساعده من خلال استعمال هذا المثل على التعبير عن مشاعر كبيرة ومعان كثيرة بكلمات قليلة مكثفة، تحمل لديه تجربة شعورية خاصة عبّر عنها بصورة حسية، من خلال كلام ابتدعه غيره، وتعارفَ عليه الناس مكرّرين روايته واستعماله كلما عرضت لهم أشباه حالته الأولى التي ضُرب لها، فإن الحكماء والأدباء ما يزالون يضربون الأمثال، ويبينون للناس تصرف الأحوال بالنظائر والأشباه والأشكال، ويرون هذا النوع من القول أنجح مطلبا وأقرب مذهبا، يُقَدَّمُ فيه الكلام مقروناً بالحجة.
وتكملة لهذه الصورة التي يبدو عليها الشاعر شاكياً ألم الفراق في البيت السابق نجده في بيت آخر من القصيدة ذاتها يؤكد عدم نسيانه عمان واهتداءه إليها على الرغم من بعده الطويل عنها، فيأتي بمثَل آخر يدلل فيه على دوام حضورها في وجدانه واستحالة نسيانها، وقد عبّر عن ذلك مغيّرا في نصِّ مثل "أهدى من قطاه" قليلا بما يناسب السياق والتجربة الشعرية دون أن يذهب بأصل المثل، يقول: "أنا القطاة اهتداءً في محبتها"، فتصرّف الشاعر في المثل وأظهره بعبارة جديدة على علاقة بأصل النص الأصلي تشبه عبارته الأولى وتحمل معناها أو معنى على علاقة بها، ثم إن القطاة تهتدي إلى أعشاشها وإلى مواطن المياه التي كان تردها، في حين نجد الشاعر يهتدي إلى هوى عمان ومحبتها، يقول:
أنا القطاةُ اهتداءً في محبّتِها
ومن هواها أعبُّ الكأسَ نشوانا
وقد ذكر العزازي الأمثال بنصّها في قصيدة "باري القوس"، آخذا بالفكرة القائلة إن الأمثال كالأعلام لا تغيّر عند استعمالها إلا بما تقتضيه ضرورات اللغة، كتصريف الأفعال مع الضمائر أو ما شابه ذلك:
قالوا الهدايا على أقدارِ مهديْها
ما أحسنوا للهدايا أو لمعطيها
تسابقَ العُرْبُ للعلياءِ قلتُ لهمْ:
هذا الحسينُ فأعطوا القوسَ باريها
وفي البيتين السابقين يفيد الشاعر بعض معانيه من مثلين مشهورين من الأمثال العربية القديمة، جاء بهما في قصيدته بنصيهما وهما: "إن الهدايا على أقدار مهديها"، و"أعط القوس باريها".
وفي معرض تعزيته عمان بما أصابها من فجيعة النكسة وما شعرت به من مأساة بسببها يقول:
لا تطرقي أسفاً إنَّ الجوادَ كبا
لكنَّهُ قدْ وفى بالوعدِ والعَهْدِ
والشاعر في هذا البيت يشير إلى مثلين عربيين على علاقة بالمعنى الذي يحمله بيته الشعري، فالنكسة التي أصابت الأمة وطال عمانَ منها الكثير إنما هي كبوة "إن الجواد كبا"، تزول بعد فترة قليلة تنهض عمان (الجواد) بعدها لتواصل المسيرة، وإن عمان وإن كانت قد كبت فإنها قد وفت بما وعدت به، من صدق الوعد والوفاء بالعهد، وهذا إشارة إلى المثل العربي "أنجز حر ما وعد". وفي قصيدة "ذكرى" التي قالها الشاعر في الذكرى العشرين لمغادرته عمان، يتشوق إليها داعياً لذكراها بالسقيا، مقدما لها الأعذار الحارة عن هذا الغياب الطويل، وإن كان يرى أن مثل هذه الأعذار هي اعتراف منه بالذنب الكبير الذي اقترفه بحقها، ثم إن أعذاره هذه قد جاءت متأخرة عشرين عاما، ظلَّ يرسلها لها تعلاّتٍ غير صادقة ولا مقبولة، فكانت أعذارا واشية بعدم صدقها، و"إنَّ المعاذير يشوبها الكذب"، و"فضح العذر بالعذر" كما يقول الشاعر:
عشرونَ عاماً مِنْ الأشواقِ والصَبْرِ
جرتْ فكيفَ انقضتْ؟ والله لا أدري
سقياً لعهدِكِ يا عمانُ إنَّ لنا
فيضَ الدموعِ وفضحُ العذرِ بالعذرِ
وفي قصيدة "بشرى" يقول العزازي متشوقا إلى الوطن:
يطيرُ بي الشوقُ للأردنِ كلَّ غدٍ
على جناحِ أوانٍ بَعْدُ لمْ يئنِ
وما يحلُّ غدي رغمَ الوعودِ بِهِ
كأنَّما الغدُ لمْ يحبلْ بهِ زمني
والشاعر في البيت الثاني يفيد معناه من مثل مشهور هو "مواعيد عرقوب"، تلك المواعيد التي لا تتحقق على الرغم من كثرة الوعد بتحقيقها، كما يفيده من مثل آخر هو "ولود الوعد عاقر الإنجاز"، الذي يحمل معنى المثل السابق وذلك من خلال إشارتين تلميحيتين إلى المثلين المذكورين.
التراث التاريخي:
استعمل العزازي التراث التاريخي في شعره، ولكنه لم يكثر منه ولم يبالغ في استعماله، فهو لم يطلب مثل هذه المفردات ليرصِّع بها قصائده أو ليدلِّل على سعة ثقافته في هذا المجال. ومن المعروف أن الرمز التراثي لون من ألوان "فائض الماضي على الحاضر"، يراد منه التعبير عن رؤى الشاعر ومشاعره بوساطة الكلام القليل، وعن معنى وراء المعنى الظاهر مع اعتبار المعنى الظاهر مقصوداً أيضا"، والهدف منه تجسيد الرؤية أو القضية التي يُرمز إليها بوساطة مفردات هذا التراث، وتقديم صورة حسية توحي بمعنى مجرد لها، ما يؤدي إلى تخصيب الرؤية الشعرية، وما يمكّن الشاعر من استنطاق التجارب القديمة، والتخاطب مع المتلقي بشيفرة ذاتية خاصة لا تحدها حدود تقليدية، وذلك عن طريق الدلالات الرامزة التي تفتح قنوات عديدة لإثراء الانفعال الشعري. ويُستدعى الرمز التراثي لسبب متعلق بالحاضر هو وجود تشابه بين جزء من التراث والتجارب الشعرية المعاصرة المستدعى لها هذا الجزء من التراث، ولكن الأساس في هذه العملية هو الحاضر، سواء أُسقط الحاضرُ على التراث أو حوِّرَ التراثُ لمواءمة هذا الحاضر.
وقد تجلّت عناصر التراث التاريخي في شعر الشاعر في أسطورة واحدة وفي بعض الرموز التي تشير إلى الأحداث والشخصيات والعناصر التراثية التاريخية الأخرى الغنية بالتجارب والإيحاءات التي عمل الشاعر على توظيفها توظيفا معاصرا، وصارت في شعره جديدة كل الجدة في كثير من تجلياتها.
لجأ الشاعر إلى استعمال الأسطورة في شعره كونها تتجلّى كرمز محسوس لإحساسه الداخلي، يتمتع بقدرة على حمل تجربته الشعرية الخاصة في القصيدة، ثم إن الأسطورة بشكل عام تساعد على إكساب التجربة الشعرية الخاصة بعدها الموضوعي، وتميل إلى اتخاذ أسلوب الإيحاء بالمعنى المقصود، وهي بذلك تشبه الشعر نفسه في هذا المجال، كما أنها تسعف الشاعر على الربط بين أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر، ما يوفر له مجالا أوسع للإبداع، كما أنها تتمتع بقدرة فائقة على التوحيد بين تجربة الشاعر الذاتية والتجارب الجماعية، ما يعطيها عمقاً أكبر من عمقها الظاهر، وما ينقلها من بعدها الشخصي الذاتي إلى بعد إنساني أوسع، وما يجعل القصيدة التي ترد فيها الأسطورة محفورة في التاريخ، وقد اهتم بها الشعراء لقدرتها على إنقاذ القصيدة بشكل عام من الغنائية المحض، ولما لها من جاذبية خاصة لأنها تصل بين الإنسان والطبيعة، ولما لها من قدرة على تجاوز الزمان الماضي والاستمرار في الزمان الحاضر، ولما لها من قدرة على جعل الشاعر يحس أن الحقيقة المجردة لا تكفي للتعبير عن تجربته، ولا تفي بتصوير انفعالاته ورؤاه، إن الأسطورة تكاد أن تكون لغة الشعوب التي يتفاهمون من خلالها بشكل يتميز بالعمق والإيحاء، والشاعر من خلالها يقدم لنا صورة عميقة بعيدة عن المباشرة، والمتلقي بدوره لا يعنى بالصورة كصورة فقط وإنما يتعدى ذلك إلى معرفة ما ترسمه هذه الصورة التي تتعدى المعنى القريب إلى معنى أبعد وأعمق.
لقد اهتم العزازي بأسطورة العنقاء وبرديفها حنظلة - باعتبارهما شِقَّيْ أسطورة واحدة - بشكل ملفت للنظر، فتجلت هذه الأسطورة في شعره بشكل واضح، وأبدع ما يشبهها صورة جديدة في شعره، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا. لقد احتضنت هذه الأسطورة بشقيها تجربة الشاعر بأسلوب مكثف ومؤثر، فهو يصنع من هذه الأسطورة العربية سياقاً شعرياً متناسباً معها، فالأمر أمر طير وطيران وطيّار واختطاف وغربة وبعد عن الوطن وشوق إليه، فتأتي إحدى قصائده بعنوان "طائر الأشواق". ولكن الشاعر عندما يستعمل هذه الأسطورة في شعره فإنه يغيّر في بعض جوانبها، فإذا كانت العنقاء قد احتفظت بالمعنى الأصلي الذي تحمله رمزا للفقد والبعد اللذين يطوّحان بالشاعر بعيدا عن عمان فإنه يحوِّر في وظيفة حنظلة (الشق الثاني من الأسطورة)، فبعد أن كان رمزاً للحياة يدعو على العنقاء بالفناء والزوال ليعيش الناس مرتاحين من شرورها أصبح رمزاً لما ترمز إليه العنقاء نفسها، وقد أحسن الشاعر الإفادة من هذه الأسطورة وذلك بتوليد معنى جديد من القسم الثاني منها يختلف عن أصل المعنى المعروف لها عندما جعل حنظلة طيارا يختطفه كالعنقاء، وبذلك فقد تحولت جدلية الموت الذي تمثله العنقاء والحياة الذي يمثلها حنظلة في شِقَّيْ الأسطورة المتلازمين إلى سكونية الموت الكامل، وذلك بتعاونهما على اختطافه وتغييبه عن عمان، إن الشاعر يهدف في اتكائه على هذه الأسطورة الموغلة في الزمن الماضي إلى التعبير عن إحساسه بالفقد والغياب، وهو عندما يستعملها فإنه يجعلها معادلاً موضوعياً لتجربة إنسانية معاصرة خاصة به يحسها ويعانيها بكل مكوناتها (الطائرة والطيار والشاعر نفسه باعتباره الفتى العربي الذي اختطفته العنقاء كما يذكر أصل الأسطورة)؛ وبذلك فقد أصبحت هذه الأسطورة أداة مهمة للتعبير عن غربة الشاعر النفسية والحياتية وفي بعض تجاربه الشعرية، يقول:
ما كنتُ أحسبُها عنقاءَ مغربةً
أو أنَّ حنظلةَ قدْ صارَ طيارا
والشاعر يولّد من الأسطورة بعض الجزئيات التي يحوِّرها ويوظفها بما يتناسب وإحساسه في هذه التجربة المرة، حيث يتشرب العزازي الأسطورة من وجهة نظره – شاعراً - التي تختلف عن وجهة نظر الدارس الموضوعي أو حتى وجهة نظر غيره من الشعراء الآخرين، فالشاعر المبدع لا يُلصق الأسطورة بقصيدته إلصاقا، أو يعلقها على حواشيها بدبوس كلون من ألوان الحلية الزائفة.
إن استعمال الشاعر لهذه الأداة التراثية قد عمَّق تجربته الخاصة وذلك عندما عبّر عنها من خلال تجربة ضاربة أعماقها في التاريخ، ما وفر له اطمئنانا نفسيا عبّر من خلاله عما يريد التعبير عنه بتكثيف وتأثير، خاصة وأنه يدمج تجربته المعاصرة – بما يكتنفها من ظروف صعبة – بالتجربة التراثية (العنقاء وحنظلة)؛ فحصل بذلك على مثل هذا الاطمئنان بسبب اتكائه على تجربة معروفة، وبسبب ثقته بتقبل المتلقي لنتاجه المتضمن مثل هذا التراث باعتباره تراثا مليئا بعبق التاريخ، متصفا بفهم مشترك بين الطرفين، وبكون الأسطورة تتمتع بقدسية وسلطة كبيرتين على عقول الناس ونفوسهم.
وقد كان جو أسطورة (العنقاء) مسيطرا على جو قصيدة "طائر الأشواق"، وإن بدت الإشارة إليها مختصرة لم تتعد صدر البيت الواحد، وكذا (حنظلة) الذي شغل عجز ذلك البيت، والشاعر لم يفصِّل الأسطورة في قصيدته كما فصَّلَتْهَا الروايات ودوِّنَتْهَا الكتب، وإنما استلهم معناها استلهاما، ولكنه استطاع بإشارة سريعة فيها المزجَ بين الأسطوري والشعري، وأن يبرز المنحى الجديد لتوظيف التراث، فأبدع في الإفادة من الأسطورة معتمداً على اللغة التصويرية الإيحائية فيها التي توحي بالحقيقة ولا تحددها بالضبط، حتى كادت أن تتحول لديه إلى أسطورة شعرية فيها من الغنى ما يكسب النص عمقاً في الدلالة وتكثيفاً في الرؤية. إن الشاعر عندما يلجأ إلى استعمال العنقاء كرمز للغربة التي يعانيها فإنه يجعلنا ندرك بوساطة هذا الرمز الأسطوري ما "لا يستطاع التعبير عنه بغيره، فهو أفضل طريقة ممكنة للتعبير عن شيء لا يوجد له معادل لفظي" لدى الشاعر، خاصة عندما تكون المشاعر جيّاشة تقف اللغة إزاءها قاصرة عن التعبير، فهذه الرموز تُفْهَم دون أن تكون محتاجة إلى تفسير، فالعنقاء المُغْرِب بما في كلمة مغرب من الإسراع والتغريب والغربة التي تضيّع الشاعر حتى لا يكاد يجد نفسه بسببها، وحنظلة بما يوحي به معنى هذا الاسم من المرارة التي يحسها الشاعر، والطيّار بما تحمله هذه الصيغة (الفعّال) من المبالغة في الطيران والإبعاد، كل هذه الكلمات الواردة في الشعر المتضمن لهذه الأسطورة وظلالها لها معانٍ موحية، فالشعر هو "المنطقة التي تتحول فيها العلاقة بين الصوت والمعنى من علاقة خفية إلى علاقة جلية تتمظهر بطريقة ملموسة جدا". والعنقاء – كالغول والخل الوفي - من المستحيلات التي لا تدرك إلا وهْمَاً، وقد جاء دورها في القصيدة على هيئة الاستعارة الإبدالية تعتمد على إبدال كلمة حقيقية بكلمة مجازية، فالطائرة الحقيقية تصبح عنقاء وهمية "ما كنت أحسبها عنقاء"، وعلاقة الطرفين (العنقاء والطائرة) قائمة على المشابهة الوهمية أيضا، والاستعارة تصريحية، صرح فيها الشاعر بالمشبه به (العنقاء)؛ وبذلك فقد امتزجت تجربة الشاعر الشخصية بالأسطورة المغرقة في الزمن الماضي فأصبحت تجربة إنسانية عامة، معبرا عنها من خلال لغة شعرية يمتزج فيها التصوير الأسطوري بالتصوير الشعري.
وقد ولّدت هذه الصورة الأسطورية (العنقاء وحنظلة) التي كان الشاعر يحس فيها بالرعب صورةً جديدة مرعبة أيضاً مليئة بالكثير من روح هذه الأسطورة، أبطالها الطائرة والطيار، وإن كان العزازي يحاول أن يرسمها بعيدا عن العنقاء وحنظلة، ولكنها ظلت تحمل ظلهما المرعب وتقترب في خياله من الصورة الأسطورية الأصلية التي أوحيا بها، يقول وهو يودع عمان:
وحانتْ الساعةُ الكبرى فما وجفتْ
أرضٌ كقلبِكَ أو مارتْ كما مارا
غداةَ طارتْ بنا في الجوِّ طائرةٌ
وقودُها لوعتي تذكي بها النارا
ما كنتُ أحسبُها عنقاءَ مغربةً
أو أنَّ حنظلةَ قدْ صارَ طيارا
إن الشاعر يستحضر صورة العنقاء الطائر الأسطوري بما يشبه صورته المجلّلة في خيال الناس ولاشعورهم من رعب الاختطاف وعدم إمكانية العودة، فهو يتخيل هذه الصورة المخيفة عندما تقلع به الطائرة من عمان وهو يجول ببصره على أرجائها من خلال النافذة، فيشعر بالخوف بل بالرعب بسبب تيقنه من عدم إمكانية الرجوع إليها، وذلك من خلال استرجاعه صورة العنقاء المختطِفة سريعة الطيران، وصورة حنظلة الذي يقودها معاوناً لها على اختطافه متخلياً عن دوره في الأسطورة الأصلية.
ومثل هذه الصورة تظهر مرة أخرى في قصيدة "تأشيرة" حيث يبدع الشاعر صورة مشابهة للصورة السابقة - صورة الطائرة والطيار - وإن كانا قد جاءا في هذا البيت صورة لأمل الشاعر بالعودة إلى عمان الذي لم يتحقق ولن يتحقق بوساطتهما:
كأنَّها ما أتتْ في الليلِ زائرةً
ولا أتينا لها في الحُلْمِ زوّارا
ولا اتخذْنا من الأشواقِ طائرةً
أو من حنينٍ إلى عمانَ طيّارا
إن العزازي لا يخلق هذه الأسطورة صورة مقصودة لذاتها وإنما يعمل على توظيفها لتكون جزءاً من تجربته الخاصة وجزءاً عضوياً في بناء القصيدة لديه، فدورها ليس مقتصراً على الجانب الدلالي بل يتعداه إلى التشكيل الجمالي للنص حيث تصبح الأشواق طائرة ويصير الحنين طيارا، يعبر من خلالهما عن عاطفة ملتهبة وعن صورة قطبين مهولين يعملان على تغييبه، وقد حقق الشاعر من خلال هذين القطبين التطابق بين الماضي البدائي (الأسطوري) والحاضر المعيش، كما حقق الموازاة القياسية بين العنقاء والطائرة، وبين حنظلة والطيار وبين الفتى المختطف ونفسه، والشاعر بخلقه لمثل هذه الصورة الجديدة يثري الرمز القديم ويخصِّبه، كما أن تكرار صورةٍ ما في شعر شاعر معين أو مجموعة من الشعراء يجعل هذه الصورة رمزا أو أسطورة لديهم.
ويجب أن يُنظر إلى نجاح توظيف الأسطورة أو فشله فنياً من خلال رصد مدى اندماج مكونات الأسطورة أو جزئياتها أو بعض هذه الجزئيات داخل بنية النص، ومقدار مساهمتها في تعميق دلالته الكلية وليس من خلال قياس مدى توافق التوظيف أو اختلافه مع المرجع التاريخي الذي يعدُّ عنصراً خارجياً عن النص، فهناك فرق يجب التركيز عليه بين الدلالة العادية لمثل هذه الرموز في واقعها التاريخي والدلالة الجديدة لها في النص الشعري الذي يصل بالتعبير إلى وجدان الجماعة، وهذا ما لمسناه لدى العزازي حيث أفاد من الأسطورة في التعبير عن تجربته الشعرية، وفي اجتراح أسطورة جديدة (الطائرة والطيار) قياساً على الأسطورة القديمة (العنقاء وحنظلة).
كما استعمل الشاعر الرمز التاريخي في شعره، ووظّفه فيه بنجاح، ومن المعروف أن هذا الرمز ليس قالباً جاهزاً أو نظاماً إشارياً يتكرر بدلالته الأصلية نفسها ومعناه الأول نفسه في النصوص المختلفة، وإنما هو متغير نتيجة لكل تجربة شعرية جديدة لدى كل شاعر بل لدى الشاعر الواحد في التجارب الشعرية المختلفة، فالشاعر يوظف من خلال عملية الإبداع رموزَه بطريقته الخاصة، ووفق ما تمليه عليه رؤيته وتجربته الفنية، فالعزازي يفيد كثيراً من خلال تجربته الشعرية الخاصة في قصيدة "أين المفر؟"؛ من تلميحِهِ إلى خطبة طارق بن زياد: التي قد تشي لديه بالموقف من الآخر الذي يعيش في قارّته، وإلى تشابه الظرف المادي والنفسي ولو قليلا بين الشاعر وطارق بن زياد، وإلى الشعور بخطورة الموقف، وكأنه عندما يستعيد كلمات الخطبة يلقيها طارق في جيوشه في الأندلس: "أيها الناس، أين المفر؟! البحر وراءكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر" – يدرك أنه يقول لهم: أيها الناس، لا مفر، فاصبروا، ملتقطا الجملة المحورية في هذه الخطبة - أين المفر؟ = لا مفر - ليضمنها في تجربته الشعرية. إن هذه الخطبة (الرمز التاريخي) تصبح لدى الشاعر رمزاً شعرياً يجمع في حركة واحدة بين الإشارة والمشار إليه، ولكنه يأتي به بدلالة جديدة تأخذ مفهوم المقارنة الذي يحمل دلالات ضمنية عميقة - في كيفية واحدة - من بينها الدلالة الرمزية للتشبيه، وهو يحوِّره حتى لتبدو عمان فيه مفراً خاصاً يلجأ إليه، فارّاً من كابوسه الذي يعيشه منقطعا عنها في هولندا كما انقطع طارق بن زياد وجنوده في الأندلس بعيداً عن المغرب، وهذه الرؤية هي إعادة تشكيل لمعنى جديد يبدعه الشاعر لهذا الرمز التاريخي المعروف، ثم إنَّ الشاعر يريد أيضاً أنْ يستدعي صاحب النص من خلال الإشارة إلى نصه الذي ألقاه في جيوشه، وبما يمثله من تحد للظروف وصبر على شظفها وخطورتها، ويبدو أنَّ الشاعر عندما يحس بالانبهار بمثل هذا الظرف الصعب الذي يكتنفه يربطه بما هو أكبر منه أو أكثر منه إبهارا، محاولة منه للتعبير عما يحسه بوساطة هذا الرمز التاريخي وصاحبه بشكل غير مباشر، وهذا ما يريده الشاعر، فهو غير محتاج إلى أن يقول ما يريد بوضوح وتفصيل إذا كان يستطيع أن يشير إليه أو يعبر عنه بإشارات مكثفة أو تجليات موجزة من خلال ومضة واحدة أو لمحة سريعة، ومن خلال تجربة لها رصيد كبير في وجدان المتلقين، يسوقها الشاعر بتصرف أو تغيير ما. إنَّ الشاعر من خلال ذلك يحيل على هذا الرصيد من التراث التاريخي الذي يضمنه في نصه أو يدمج الإشارة إليه، أو يورد معناه في عبارة أخرى على جهة قلبٍ أو نقل إلى مكان أحق به من المكان الذي هو فيه، فالشاعر أكثر حاجة إلى مفر من طارق بن زياد بسبب ما يعانيه من ظروف صعبة لا يملك أمامها قوة أو حيلة، وهو يلتقط مثل هذه الومضات والإشارات التقاطاً مباشراً ما يغني عن الارتباط المنطقي بين الأفكار المتتابعة.
إنَّ العزازي يحوِّل هذا الرمز التاريخي- الداعي إلى الاعتصام بالصبر - إلى رمز آخر يدعو فيه نَفْسَه إلى الاعتصام بعمان، فهي الضفة الأخرى التي تنصره أمام هذه الغربة وهذا الانقطاع مثلما المغرب هي الضفة الأخرى للأندلس التي تنصر طارق بن زياد وجيوشه، يقول:
خسئ اليأس،
فما عمان إلا الوحي للفن والشعر
رغم أنف اليأس تبقى
في شعوري والنوى ضفةَ نهر.
إنَّ الشعراء – كغيرهم من الأدباء - مقيَّدون بلغتهم وموروثاتها، والرموز والألفاظ فيها مثقلة بتراثها، وهذا التراث جزء مهم يطورون القصيدة بوساطته، ويستلهمونه ليوفروا في فنهم عنصر الانتماء دون أن يكون الغرض هو التراث نفسه، بل الغرض استلهامه والنفاذ من خلاله إلى الحاضر وإلى استشراف المستقبل، ثم إنَّ مثل هذا التراث يوفر فرصة التواصل بين الشاعر والمتلقين، كما يوفر إمكانية تأثيره فيهم، ويعمل الشاعر من خلاله على اختصار المسافة بين الواقع الذي يعيشه والماضي البعيد، ليس ذلك على أساس ترصيعي وإنَّما على أساس توظيف هذا الماضي في تجربة جديدة، فتتعمق التجربة وتنمو من الداخل، ويستحضر الشاعر الصورة التاريخية التي يجعلها صورة مؤثرة في الصورة التي يعيشها، أو موحية بإطارها العام، حتى وإنْ كانت صورة مفترقة معها من الناحية التاريخية. ومن ناحية الخطاب يحاول الشاعر أن يوفق بين الخطاب التاريخي والخطاب الشعري، صحيح أنَّ الصورة راهنة يعيشها الشاعر إلا أنَّ مثالها أو صورتها الأولى صورة تاريخية، وهذا يمنح النفس حيوية خاصة تجسدها محاولته تخَْييل الحاضر متأثرا بصورة - أنموذجية - من التراث التاريخي، ففي قصيدة ''أين المفر؟''
التي أشرنا إليها آنفا يحاول العزازي أن يربط الماضي التاريخي بحاضر تجربته الخاصة، مضفياً جانباً من تجربة طارق بن زياد عليها، فعمل بذلك على المقارنة – غير المباشرة - بينه وبين طارق بن زياد من خلال إشارة تلميحية مختصرة في شعره، فإذا كان طارق في ظروف صعبة في الأندلس، منقطعا بجيوشه عن بلاده ومدده، وأمامه جيوش عدوه بكامل أهبتها معززة بظهير لا ينقطع فإنَّ الشاعر في المقابل في ظروف صعبة مشابهة، فهو منقطع في أوروبا، لا ظهير وراءه سوى جيوش من الأعداء (البحر والشوك والغيلان والصخور والصحاري...إلخ)، وأمامه جيش من الغربة يرى الشاعر نفسه فيها مفردا يبحث عن مفر، أو مسجونا في سجن انفرادي يعاني فيه الألم والحزن، يظهر ذلك من خلال فرديته البادية في أسطر القصيدة (فاضت بي، صاح... بي، حولك البحر..إلخ)، ولنلاحظ أن الشاعر في المقطع الأول يتحدث عن نفسه كما لو كان بين يدي سجان قاس يصيح به ويهدده وييئِّسه قائلا: "حولك البحر، وحول البحر أشواك...إلخ" فأين المفر؟، ثم نرى الشاعر بعد هذه الثورة والهياج الداخلي يعود مرة أخرى إلى حالة من الهدوء تتناسب مع طبيعة الشعر "خسئ اليأس...إلخ"، ما يشعرنا بالأزمة الداخلية التي يعانيها الشاعر منذ اللحظة الأولى في القصيدة، بل منذ العنوان (أين المفر؟) الذي تبدو فيه الأزمة مكثفة بشكل كبير، والتي يفصِّل الشاعر بعضَها في القصيدة بعد ذلك:
كلما فاضت بي الأشواق صاح اليأس بي:
أين المفر؟
حولَكَ البحرُ،
وحولَ البحرِ أشواكٌ...وغيلانٌ...وصخرْ
ومفازاتٌ وراءَ الشوكِ...في أحشائها تيهٌ وجمرْ
لقد ظهر طارق بن زياد بظرفه الصعب في الأندلس معادلا موضوعيا للشاعر بظروفه الصعبة في بلاد الغربة، فكانت هذه الصورة التاريخية التي أشار إليها تجسيدا لفكرته التي يريد أن يعبر عنها، والتي استدعى من أجلها نظيرتها من التراث، وعملية الاستدعاء هذه هي محاولة من قبل الشاعر للاطمئنان إلى وجود تجربة سابقة مشابهة - ولو بشكل مختلف بدرجة أو بأخرى - لتجربته؛ وبذلك فقد نجح في تأسيس صلة "بين المتلقي وبين زمنين يتَّحدان في نص معاصر"، وأحدث تواصلاً بين الماضي والحاضر، وذلك من خلال بناء الموقف القديم برؤية جديدة في النص الفني الجديد. إنَّ الإشارة إلى هذا الحدث التاريخي وإيراده بطريقة فنية في القصيدة قد ساعده على استلهام موقف صاحب الخطبة بما يعنيه من انقطاع عن الوطن وصبر في المواجهة، كما ساعده على الإتيان بمعنى جديد ولّده من تجربته الخاصة وهو الانتماء لعمان (الوطن). ولا بد من التأكيد على وجوب توافر عنصر التكافؤ بين الرؤية الذاتية للرمز وبين معناه أو حقيقته في إطاره التاريخي، كما أنه لا بد أيضاً من وجود علاقة جدلية بين الرمز في معناه التراثي ومعناه الفني عند توظيفه في السياق الشعري، وهو ما رأيناه في شعر العزازي عامة، ومع ذلك فإنَّ هذا لا يكفي لعملية الإبداع، فعالمُ الشاعر في حالة الإبداع الفني مزيجٌ من المتغيرات الناتجة عن التعامل مع أمور كثيرة، كالخيال والصور والرموز والأساطير والمواقف والرؤى والعواطف.
كما ورد رمز مهم آخر في شعر العزازي هو قميص يوسف وكنَّا قد توسعنا في بحثه في موضوع الاقتباس القرآني وأشرنا إليه في موضوع التضمين الشعري، وذلك في قصيدتي "قميص يوسف" و"ثوب العافية"، فقد ألح الشاعر عليه كرمز للخلاص من براثن الغربة التي عاشها ومن الأمراض التي عاناها، وذلك لما لهذا الرمز من قدرة على تكثيف ما يريد الشاعر التعبير عنه بصورة حسية مجسدة في صورة شعرية ساعدت على ابتعاد هاتين القصيدتين عن الآنية، لما للرمز من قدرة على تخطي الزمان، ونكتفي بدراسة هذا الرمز في الاقتباس القرآني والإشارة إليه في التضمين الشعري تلافيا للتكرار الذي نبهنا إلى ضرورة عدم الوقوع فيه.
ولمَّا كان الشاعر في حضرة مدينة جرش وآثارها – في مهرجان جرش الثاني - فقد أملى عليه جوها التاريخي الإشارة الشعرية إلى تاريخ المدينة بنفس ملحمي، وإلى الإشارة إلى بعض رموز الشخصيات التاريخية ممن مروا بها، يقول:
إلى ربا جرشِ الغراءِ حيثُ جثا
بومبي ليمسحَ بالكفين محرابا
وهدريان مشى فيها على مَهَلٍ
مطأطأَ التاجِ إجلالا وإعجابا
و(بومبي) و(هدريان) رمزان تراثيان غير عربيين ولكنهما على علاقة بهذه المدينة العربية في تاريخها القديم، والشاعر بإشارته إلى هذين العلمين لا يقصدهما وإنما يريد تاريخ المدينة بما يوحي به من عراقة وإباء يَشْعُرُ بهما الشاعر حتى لتبدو المدينة رمزا للعراقة والإباء العربيين، وهو يستعملهما رمزين للحضارة والمدنية التي كانت عليهما المدينة، ما دعا بومبي للجثو على ركبتيه احتراما لحضارتها، وما دعا هدريان إلى أن يطأطئ تاجه إجلالاً وإعجاباً بعظمة تاريخها التي ما تزال ماثلة في مهرجانها الثاني، كما يوظفهما الشاعر وسيلةً للتعبير عن حالة الزهو التي تبدو عليها المدينة في ذلك المهرجان المشابهة للحالة التي تعتمل في نفسه وهو بين جنباتها وفي شوارعها العتيقة، المتحدية لعوادي الزمان مثلما الشاعر يتحدى عوادي الزمان أيضا، فالشاعر بشكل عام في استعماله مثل هذه الرموز يريد أن يثير في المتلقي حالة نفسية مشابهة للحالة التي تعتمل في نفسه ولا يستطيع أن يعبر عنها بالأسلوب التقريري؛ وبذلك فهو يريد أن يعديَهُ بما يحسه من زهو بتاريخ المدينة باعتبارها رمزاً أو معلماً من معالم الوطن الذي ينتمي إليه والأمة التي يتغنى بأمجادها. ومن الملاحظ أن التجليات التراثية في شعر العزازي عامة ومنها تجليات الرموز التاريخية تنزع بشكل واضح إلى الرموز الممثلة لهوية الأمة؛ رغبة منه في التمسك بتراثها الحضاري أمام الحضارة الأخرى التي يعيش في خضمها، خاصة وأنه يعيش أزمات عديدة على المستويين الحضاري والشخصي؛ ولذلك لم نجد تجليات تراثية غير عربية في شعره عدا هذين الرمزين اللذين أشار إليهما إشارتين سريعتين، وهو لا يقصد الفخر بهما وإنما الفخر بالمدينة العربية التي مروا بها، وبذلك فقد كان عنصر المكان العربي (جرش) مساهما مساهمة فعّالة في هذا الاستدعاء لهذين الرمزين، كما ساهم في إنجاح توظيفهما خدمة للمدينة وتبيانا لعظمتها كرمز للثورة على المحتل الفارسي الذي استولى عليها بعد هزيمة الروم في المنطقة سنة (614م):
ظلّتْ عروسَ بلادِ الشرقِ قاطبةً اللهو فيها حلا والعيشُ قد طابا
حتى غزتْها جيوشُ الفرسِ فانقلبتْ
ليثَ العرينِ، ودفقَ السيلِ غلابا
وهزّتْ الرمحَ في وجهِ الغزاةِ فلمْ
تخفضْ جناحا ولمْ تفتحْ لهم بابا
فولتْ الفرسُ أدبارا إذ
ارتعدتْ منها الفرائصُ فيما القلبُ قد ذابا
كما أشار الشاعر إلى بعض الأسماء العربية التاريخية المعروفة باعتبارها رموزا في الحب العذري كليلى وسُعدى، يقول:
هوى الغواني اشتكاني
إلى المها والحـسانِ
يغارُ ممـا يراهُ
من عشقِنا للمغـاني
يقولُ: حبـُّكَ ليلى
بثغرِها الأقحـواني
وجيدُ سعـدى وقدّا
كأنَّهُ غصنُ بـانِ
أشهى إليك وأحلـى
من شارع ومبانـي
وما علـىَّ
فهذا عذولُ كلِّ زمـانِ
مؤكدا أنَّه لا يستبدل حبهن بحب عمان، التي غدت لديه رمزاً جديداً أبدعه من خلال تجربتيه الحياتية والشعرية الخاصتين، فقد أكثر الشاعر من ذكرها حتى بدت في معظم قصائده تقريباً رمزاً خاصا، تحولت من خلال إلحاحه عليه من صورة عامة إلى رمز خاص، فأصبح الشاعر صانعاً لهذا الرمز باعتباره رمزاً كبيراً يدل على الانتماء للوطن، كما صنع رموزاً أخرى مشابهة كرمز "ربعي"، الذي رسم من خلاله صورة جميلة عزيزة لأهل الأردن عامة، وكرمزِ "العصفور المهاجر"، الذي يرمز به إلى نفسه وإلى هجرته وغربته؛ وبذلك فقد انتقل الشاعر من مستعين بالرمز التاريخي مستلهم له في شعره إلى مبدع لرموز جديدة. ومثلما بدت هذه التجليات مؤثرة في الإيحاء بتجربة الشاعر فقد ظهرت تجليات أدوات تراثية أخرى أقل تأثيرا، كصورة المعركة الحربية المحفوظة في الذاكرة التي يعرفها قارئ الشعر العربي، ومنها صورةُ الفارس الذي ظهرت على شاكلته صورة مدينة جرش: فارساً يهز رمحه في المعركة، مختالاً بنفسه، متباهياً بشجاعته، لا يخفض للذل جناحا، ولا يفتح للعدو أبواب مدينته، ومنها صورةُ الطيور الجارحة والضواري الكاسرة تتبع الجيش المحارب، تَطْعَمُ مِن جثث قتلى جيش العدو، يقول الشاعر في معرض افتخاره بهذه المدينة وبتاريخ نضالها ضد المحتل الفارسي:
وهزتْ الرمحَ في وجهِ العداةِ فلمْ
تخفضْ جناحا ولمْ يُفتحْ لها بابا
النسرُ يتبعُهُمْ مستبشراً بهِمُ
والذئبُ من خلفِهِمْ قدْ كشّرَ النابا
كما بدت صورة طيف الخيال الذي ألحَّ عليه الشاعر باعتباره تجلياً تراثيا يساعد على التعبير بجرأة عن مكنونات النفس، كون هذه الأداة تشبه في طبيعتها وأدائها طبيعة الحلم وأدائه، الذي يستعمله الشاعر ليبوح بما يريد البوح به بحرية أكبر.
ومن الملاحظ أنَّ التجليات التاريخية قد جاءت في شعر العزازي - بشكل عام - جزئية، والشاعر وإن كان قد نجح في استعمالها في أحيان كثيرة في توليد تجليات جديدة، إلا أنَّه لم يرتقِ بهذه الأداة إلى أنْ تكون منهجاً يشمل قصيدة كاملة شأن بعض الشعراء العرب المحدثين، أو محوراً رئيساً في قصائده، أو أنْ تكون أداة فنية فاعلة ترتقي إلى مستوى القناع، وبذلك فقد كان استعماله لها استعمالاً تقليديا، وقد يكون سبب عدم عمق فاعلية بعض هذه الأدوات الفنية لديه أنَّ شعره عمودي، محدد بطبيعة هذا اللون من الشعر، غنائي لا تتعدد فيه الشخوص، ولا تتصارع فيه المواقف، يصدر عن عاطفة واحدة لا تعتمد الجدل أو الحوار.
وقد جاءت التجليات التاريخية في شعر العزازي بما أشارت إليه من أساطير وأحداث متناسبة مع كثير من مجريات تجربته الحياتية بشكل عام والشعرية بشكل خاص، متعلقة بالغربة والانقطاع اللتين كان يكابدهما، فأسطورة العنقاء وأسطورة حنظلة وخطبة طارق بن زياد، كلها رموز توحي بمثل ذلك. وما تجدر الإشارة إليه أنَّ لغة الشاعر - على الرغم من عنايته بمثل هذه الشخصيات الأسطورية والأحداث التاريخية قد ظلت لغة متسمة بالأسلوب السهل الممتنع، وبالبعد عن صعوبة اللغة التراثية وجزالتها؛ كون الشاعر لا يستعرض تفصيلات هذه الأدوات التراثية التي تطلبُ
لغتُها التراثية التفخيم والجزالة وإنَّما يشير إليها مجرد إشارات كما أسلفنا ويوظفها توظيفا جديدا.
وقد بدا الشاعر غير محصور بالرمز بل كان حراً فيه، حيث توافرت له حرية اختياره من جهة وحرية توظيفه بشكل مختلف عن الأصل من جهة أخرى، وما تجدر الإشارة إليه أن هذه الرموز التاريخية التي استلهمها الشاعر هي رموز فردية غير جماعية، كما يلاحظ أنَّها رموز عربية عدا "بومبي" و "هدريان" - إذا أخرجناهما من سياق ارتباطهما بمدينة جرش باعتبارها مدينة عربية، ولعلَّ عناية الشاعر برموز التراث العربي راجعة إلى اعتزازه بحضارته العربية، وإلى خوفه من عدم قبول شعره لدى الجمهور خاصة وأنَّه قد رأى إكثار بعض الشعراء العرب من الرموز الإغريقية والسومرية والبابلية ورموز حضارات الشرق الأوسط في أشعارهم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ما أثَّر على درجة تلقيها لدى الجمهور. إنَّ وعي الشاعر بذاته الحضارية دفعه إلى العناية برموز هذه الذات، خاصة بعد نكسة حزيران وتداعياتها، وكأنّه يستجير بماضي الأمة أو يتقوّى به على حاضرها المر، كما أنه قد يشير إلى وعيه بالواقع الفاسد الذي تعيشه، وإلى كون هذه الرموز دعوة إلى الثورة على هذا الواقع، ومحاولة للتعبير عن طموح إلى واقع أفضل.
الخاتمة:
ظهرت جوانب عديدة من التراث في شعر العزازي كما رأينا في الدراسة، كالموروث الديني والشعري والأمثال والموروث التاريخي بتجلياته الأسطورية والرمزية، فقد جاء شعره مخلصاً للتراث، ولتوظيفه في شعره، ولاستعمال مفرداته دون غموض أو تعقيد. وقد كانت أشعار الشاعر تحيل إلى هذا التراث بِقَدْرِ ما تعبّر عن تجربتيه النفسية والشعرية. كما أنَّنا لم نلحظ في قصائد الشاعر – من حيث تجلّيات التراث فيها - مقدمات تقليدية، وما إلى ذلك من وحدات القصيدة العربية الأخرى؛ كون قصائده قصيرة في معظمها، متميّزة بوحدة الموضوع. كما لم نجد في شعره خروجا على موسيقى الشعر العربي التقليدية، فقد تمسَّك الشاعر بموسيقى البحور الشعرية العربية وبوحدة القافية إلا نادراً كما ذكرنا في الدراسة.
وانحصرت تجليات التراث في شعر العزازي في مفردات التراث العربي وحسب، فقد أحس بأهمية دلالة هذه المفردات التراثية على شخصية الأمة، ولاحظ أنَّ التوجه لدى كثير من الشعراء العرب المعاصرين والمحدثين - فترةَ إبداعه الشعري - منصبٌّ على التراث الغربي القديم أو على تراث الأمم القديمة التي سكنت منطقة الشرق الأوسط، فرأى أن يخالف ذلك؛ تمسكا منه بتراث الأمة الذي يكوِّن جزءاً مهما من شخصيتها، وتعبيراً عن تجديد من نوع خاص يقابل به تيار الداعين إلى الذوبان في ثقافة الأمم الأخرى والتماهي فيها، الذي مارسه بعض الشعراء العرب المعاصرين والمحدثين – كما ذكرنا آنفا - ما جعلهم غرباء عن أمَّتِهم وبين جمهورهم؛ وذلك بسبب اختلاف دلالات مفردات ذلك التراث وما تعبِّر عنه من معطيات ثقافية وحضارية مختلفة.
وعلى الرغم من اتساع مجالات المعرفة التراثية العربية التي تأثَّر بها الشاعر إلا أنَّه قد صهرها وتمثلها وصبغها بصبغة شعره الخاصة، ولوَّنها بألوان تجاربه الذاتية والشعرية اللصيقة بمعاناة الغربة والألم والشوق وما شابه ذلك من معاناته؛ كونها تستجيب لنوازع نفسه ولرؤيته الخاصة في تجاربه الحياتية والنفسية والشعرية.
لقد توافرت لدى العزازي الحساسية الفائقة للتراث العربي، كما توافرت له القدرة على الإفادة منه والتحكم به - بأشكاله المختلفة - بما يخدم تجربته الشعرية، ولكن ما تجدر ملاحظته أنَّ تجليات هذا التراث لم تكن جزءاً كبيراً أو مساحة واسعة في شعره، وإنَّما ورد معظمها في السياق أجزاء بسيطة وتفاريق موزّعة، عمل الشاعر فيها على بناء الموقف القديم برؤية جديدة في بيت أو بيتين في القصيدة، ومع ذلك فإنَّ الشاعر لم يقف على الحياد منها ولم يسردها كجزء من التاريخ الموغل في القدم، وإنَّما وظَّفها بما يخدم السياق الشعري، وبما يولّد منها من معانٍ جديدة. ولكننا لم نجد من تجليات التراث في شعر العزازي ما يتجلّى بمظاهر حداثية عميقة، كالأقنعة والمرايا والمنهج الأسطوري، ويمكن إرجاعُ غياب مثل هذه الأدوات الحداثية الفاعلة في شعر الشاعر إلى أنَّ أغلب شعره غنائي ليس فيه جوانب درامية عميقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.حامد كساب عياط
أستاذ مشارك - قسم اللغة العربية - جامعة اليرموك
أضف تعليقك على الموضوع