علاقة الشعر العربي بالتراث
- عادات وتقاليد ثقافه وتراث
- 29/3/2015
- 4103
- منقول للفايده
-
"اللغة والهوية في الوطن العربي" كتاب جديد بأقلام فكرية ونقدية عدة، تتناول مختلف الاشكاليات التي بهذه المسألة المركّبة، وكل منها زاوية معيّنة، بمنهجية واضحة، ومقاربات متنوعة، الأسماء التي شاركت في فصول هذا الكتاب. بسّام بركة، الربعي بن سلامة، حسين بوهرور، فايز الصيّاغ، أنور، الجهادي، أحمد حسين حسنين، عبد الرحمن بودرع، حسن حمزة، وناديا العمري.
وقد اخترنا فصلاً من فصول الدراسة التي وضعها حسين بوهرور صدر وعنوانها "علاقة الشعر العربي بالتراث".
صدر الكتاب عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".يُعرّف ابن منظور التراث تعريفاً معجمياً في لسان العرب في مادة (ورث)، فيقول: "الإرث هو الميراث وهو الأصل، ويقال الإرث في الحسب والورث في المال، ويقال في الإرث صدقٌ أي في اصل الصدق... وعن ابن الأعرابي: الوَرث والوِرث والوارث والإراث والتراث، واحدٌ... ويقال توارثناه، أي ورثه بعضنا عن بعضٍ قدماً.
يفسّر الزبيدي كلمة إرث بأنها: "نحو استيلاء الشخص على مال وليّه الهالك". أما نديمة عيتاني فتتناول قضية التراث من منظور اجتماعي وايديولوجي في كتابها التراث في الحضارة العربية، فتعرّفه باعتباره "انتقال السمات الحضرية أو الثقافية لمجتمع معيّن من جيل الى جيل، عن طريق التعلم والتعليم، ويسمى بالتراث الحضاري أو الثقافي او الاجتماعي ويتحدد التراث باعتباره مصطلحا اجتماعيا بالسمات الحضارية أو الثقافية أو الاجتماعية لأمة من الأمم. إنه تركة الأجيال الماضية من حضارة مادية ومعنوية يتلقاها الأفراد من المجتمع الذي هم أعضاء فيه...".
من هنا كان التراث الحضاري لأمة من الأمم عنصراً مهماً من عناصر التطور الاجتماعي، وبناء الراهن الفكري للانسان المعاصر، لكونه أضحى مديناً للأجيال السابقة التي أورثته النماذج التراثية كلها التي مثلت وصقلت وبلورت شخصيته الحضارية المتكاملة، لأن التراث يمثل تراكماً حضارياً وثقافياً عبر الأجيال والقرون لمضمون العناصر المادية والمعنوية للحضارة، مثل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والصناعات والحرف وقدرات الانسان، وكل ما يكتسبه من المجتمع من سلوك متعلم قائم على الخبرة والتجارب والأفكار المتراكمة عبر العصور، التي تنتقل من جيلٍ الى جيل عبر اللغة والتقليد والمحاكاة.
أقرأ في ما سبق ان التراث عملية تراكم دائمة عبر الماضي، مروراً بالحاضر، وتجاوزاً الى المستقبل، ولا يمكن أن يكون هنا قطع زمني في هذه العملية، فتجربة الانسان في الماضي تصبح تجربة جديدة في الحاضر، وتستمر الى المستقبل. ولهذا يكون علينا أن نستفيد من الإرث لتطوير الحاضر وتجديده والعمل من أجل المستقبل، من دون أن يطغى إرث الماضي على الحاضر، ولا يلغي الحاضر الماضي، ولا يقف الماضي في سبيل المستقبل.
إن "التراث العربي هو حلقة من سلسلة طويلة من الحضارات الانسانية المتعاقبة، وهو جزء من التراث الانساني العام، لأنه أدى ولا يزال يؤدي دوراً أساسياً ومهماً في إغناء الحضارة الانسانية وتطويرها، ومن يتصفح كتب التراث العربي، يجد أمامه عملاقاً متشعب الفروع، يضم الطب والرياضيات وعلم البصريات، الى جانب الفلسفة والجغرافية والأدب والعلوم الاجتماعية والفنون. ان الاهتمام بالتراث الحضاري مهمة ضرورية تحتاج الى موضوعية وعقلانية من جهة والى عالمية الفكر الانساني وتواصله من جهة أخرى. وإن عملية إحيائه هي عملية انتقائية تحتاج أولاً الى الاستيعاب استيعاباً موضوعياً، وذلك عن طريق فهمه وهضمه وتطويره نحو الأفضل، وربطه بالمعاصرة التي تعنى استيعاب الحاضر بخصوصياته القومية، وربطه بالتراث الانساني العالمي وخصوصيات العالم المعاصر".
نظر محمد أحمد السيد في دراسته عصرنة التراث الى التراث نظرة شاملة من دون حصره في رقعة معيّنة، أو لدى جنس من الأجناس، ومن دون تحديد إطار زمني يبدأ وينتهي عنده موروث ما، يقول: "التراث في معناه العام يشمل كل ما خلفته لنا الأجيال السابقة في مختلف الميادين الفكرية والأثرية والمعمارية والقيم والتنظيم والصنع. وهو كل ما هو حاضر في وعينا الشامل مما ينحدر الينا من التجارب الماضية في المعرفة والقيم والنظم والمصنوعات والحضور".
يطرح السيد فكرة احتواء الموروث العربي الاسلامي الموروثات الفكرية والحضارية والفنية والمعمارية قبل الاسلام، فيطالب بضمها الى مجموع التراث العربي القديم، لأن ماضي الشعوب والأمم التي أسلمت ليس في الحقيقة إلا جزءاً من هذا التراث الجامع. "وهذا الادراك لا يصحح ما شاع فينا من أن مكانتنا في التاريخ الحضاري لم تأخذ دوراً قيادياً إلا في العصرالوسيط، حيث كان الشرق العربي الاسلامي مناراً للعلم والمعرفة والتمدن... إذ يجوز أن نقف بالتراث عند حد زماني ومكاني يحصره في نصوصا لأدب الجاهلي وذخائر علوم العربية والتاريخ الاسلامي، بل تمتد أبعاده لتستوعب التراث القديم لكل أفكار وطننا العربي على امتداد الزمان والمكان، فمن بابل وأشور، ومن الفراعنة والبابليين وغيرهم من بُناة الحضارات القديمة، ومن الديانات السماوية وغيرها من الرسالات الروحية والاجتماعية والفكرية الكبرى، ينحدر إلينا تراث ضخم هو مجموع التاريخ المادي والمعنوي للأمة منذ أقدم العصورالى الآن".
عبّر الشاعر السوري سليمان العيسى عن شمولية التراث العربي، فقال:
وأبعد نحن من عبس ومن مضرٍ نعم أبعد
حمورابي وهاني بعل بعض عطائنا الأخلد
لنا بلقيس والأهرام والبردي والمعبد
ومن زيتوننا عيسى ومن صحرائنا أحمد
ومنا الناس يعرفها الجميع تعلّم أبجد
وكنا دائماً نعطي وكنا دائماً نجحدلا تعني القراءة المتأنية للأبيات السابقة ضرورة احتواء التراث كله باعتباره كتلة جامعة لكل ما سبق ذكره والتفصيل فيه، وإنما نتعامل مع التراث انطلاقاً من اختيار ما في التراث من نماذج صالحة للبقاء بإشعاع أفكارها وطروحاتها، فنعمد الى التمييز والفرز والتبويب والتصنيف لنصل في النهاية الى عملية التقويم المبنية على رؤية تحليلة لهذا التراث من خلال ادراك العلاقة بينه وبين الراهن المعيش في شتى تمظهراته. من هنا، تصبح عصرنة التراث هي القدرة على اعطائه قيمة وغاية وظيفية في الآن ذاته، تعيد بعثه من جديد وفق الخطوات التحليلية السابقة. "إن عصرية التراث لا تعني تقليد التراث، ولا أن نعود بحاضرنا ومستقبلنا فنصبهما في قوالب الأمس البعيد، لكنها تعني أن نبصر جذور غدنا الذي نريده مُشرِقاً في الصفحات المُشرقة من التراث، وأن نجعل العدل الاجتماعي الذي نناضل من أجله الامتداد المتطور لحكم أسلافنا بسيادة العدل في حياة الانسان، وأن نجعل قسمات العقلانية والقومية في تراثنا زاداً طيباً، وروحاً ثورية تفعل فعلها في يومنا وغدنا، وبذلك يصبح تراثنا روحاً سارية في ضمير الأمة وعقلها، تصل مراحل تاريخها وتدفع مسيرة تطورها خطوات وخطوات الى الأمام، وبذلك وحده يصبح التراث طاقة فاعلية وفعّالة".
التراث والحداثةيُعد تحديد علاقة الشعر العربي الحديث والمعاصر بالتراث الى جانب تحديد علاقته بالحداثة في ما سيأتي لاحقاً أساس ضبط ماهية الشعر الحديث والمعاصر ذاته، لأن إدراك المتغير الشكلي والمضموني في متن القصيدة المعاصرة، ليس الا قراءة ذاتية من طرف الشاعر لهذا التراث، وموقفه منه، فما "الخروج عن البحر الى التفعيلة ونبذ مقولة القاموس الشعري والثورة على القافية الموحدة والبحث عن مقاييس جديدة للشعر الحديث إلا ترجمة لمفهوم جديد للشعر من خلال فهم معيّن للتراث والحداثة أولاً، وفهم معين للعلاقة بينهما ثانياً". (فاتح علاق).
رفض العديد من النقاد والشعراء والأدباء ان تكون العلاقة بين التراث والشعر علاقة وصاية أبوية، تحدد النهج، وتفرض الوسيلة، وتزجر الخروج على القاعدة المطروحة منذ القديم. فعدّوا أسوأ الشعر ما كان صدى اتباعياً لأصوات الشعر الماضي. لكن مع ذلك قاموا بضبط العلاقات الجوهرية التي يُسمح فيها بالتعامل مع التراث، فأجازوا "العودة الى الماضي لا لتقليده بل للاهتداء بأنواره واستخراج العبر والمغازي ليس إلا، خصوصاً أن التجديد يكون داخلاً في التراث ونابعاً من صميمه، من دون نسيان أن ما مضى قد مضى، والأمة بأدبائها وجميع أبنائها، يجب أن تحيا للحاضر والمستقبل وليس للماضي". (خليل أبو جهجه).
من هنا يمكن طرح الأسئلة التالية:
هل هناك تراث قادر على رصد قاعدة معرفية وفكرية للقصيدة المعاصرة وتشكيلها؟ كيف تحدد العلاقة الاجرائية مع التراث؟ ما هي سبل عرض الموقف الجمالي والثقافي من التراث، وهل الاستجابة لإغراءات الموروث هي استجابة جمالية فنية، أم موقف فكري وأيديولوجي لدى الشاعر المعاصر؟.
يعرّف رمضان الصباغ التراث في معرض تحليله العلاقة بين التراث والقصيدة، قائلاً: التراث هو الموروث الثقافي والديني والفكري والأدبي والفني، وكل ما يتصل بالحضارة أو الثقافة. وتراثنا هو الموروث عن السّلف سواء أكانوا ممن يقطنون المنطقة نفسها أم غيرها، أي ان تراثنا هو الموروث في كل أنحاء العالم، القصص والحكايات والكتابات وتاريخ الأشخاص وما ظهر من قيم، وما عبّر عن هذه جميعاً من عادات أو تقاليد وطقوس. كما ان تراثنا هو ما ورثناه من كل الأجيال السابقة منذ العصور القديمة في مصر والصين، مروراً باليونان والمسيحية والاسلام حتى عصرنا الحاضر. كل هذا يشكل تراثاً حياً بالنسبة إلينا، قد يكون هذا الجانب أقرب الى نفوسنا من ذلك أو العكس إلا أن هذا لا ينفي أنه تراثنا جميعاً. (رمضان علاق).
الاحتواءيتَضح من هذا التعريف الذي آثرت أن أنقله كاملاً، صفة الاحتواء التي يتميز بها التراث، فهو من الناحية الفكرية جامع لأشهر الفلسفات القديمة النابعة من الحضارات الضاربة جذورها في التاريخ، مثل الفلسفة اليونانية والهندية والاسلامية، ومن الناحية الأدبية يتسع الاحتضان الآثار الخالدة في الثقافات القديمة، مع مراعاة الإطار التاريخي لظهورها واختفائها بحسب سياقاتها الزمنية. أما من الجانب الديني فهو شامل أيضاً لمختلف الديانات السماوية أو الوضعية أو الحركات الفكرية، أتنويرية كانت أم شاذة.
لهذا أعتقد أن مراجعة التراث بمفهومه الشامل السابق يجب أن تنطلق من محفزات فكرية وجمالية يوفرها التراث للمادة الأدبية ذاتها، ويجعل منها الحلقة الأقوى في عملية الربط بين الماضي والحاضر في سياق التطلع نحو أفق المستقبل، لكونه يمثل "تحدياً للوعي الثقافي العام، وللوعي الشعري الحديث بشكل خاص، ولذا فإن التعامل مع التراث ينبع من موقف محدد، مبني على وعي جمالي وثقافي مسبق، كوّنته الذات بقدر معيّن، وساهمت عوامل أخرى (المجتمع والعصر والعلاقات الانسانية... الخ) في تكوينه... (المصدر ذاته).
تعرض الناقدة خالدة سعيد في كتابها البحث عن الجذور الذي تراجع فيه اشكالية قراءة التراث وعلاقته بالنص الشعري المعاصر، كيفية توظيف التراث في حد ذاته، وضرورة فهم التراث في سياق معالم تشكل الرؤية الفكرية والأيديولوجية لدى الشاعر أو الاديب، حيث تصبح المادة التراثية عجينة تتشكل بحسب قدرة الشاعر على فهم هذا الموروث، أو ادعاء فهمه، كما تتساءل في معرض حديثها السابق عن امكانية تشكل التراث باعتباره خلفية للقصيدة الحديثة؟ ذلك، لكون العمل الأدبي في رأيها لا يتوقف عند استحضار الحالات النفسية العميقة، الكامنة وراء النص الشعري فحسب، انما تمتد لتتقصى اللمحات الأسطورية والاشارات الرمزية، والصورة واللافتات الفكرية التي تعود بمجموعها الى الجذور التراثية. (خالدة السعيد، البحث عن الجذور).
أما الناقد حسين مروة فتكلم في كتابه دراسات نقدية في ضوء المنهج الواعي عن سبيل مقاربة الموروث الفكري والأدبي، معتمداً في طرحه على تجسيد الحس الماركسي الاشتراكي في فهم التراث والدعوة اليه، فنادى بضرورة الكشف عن مستويات ادراك مفهوم أو مفاهيم الحرية لدى أدباء التراث العربي، خصوصاً في أثناء الحديث في فصل من كتابه عن السمات الثورية في التراث الأدبي العربي. ولئن كان الناقد يدعونا الى مراجعة ماهية الحرية في الموروث الأدبي القديم باعتبارها حلقة من حلقات ربط الصلة مع الماضي، فإنه يؤكد ضرورة ألا تخرج، أو تُحيد هذه الدعوة عن الأوضاع التاريخية لهذا التراث، لأن سياق الماضي بما فيه الموروثات يختلف جذرياً عن سياق الحاضر الذي ينطلق منه الشاعر العربي المعاصر. (حسين مروة، في ضوء المنهج الواقعي).
لخص خليل أو جهجه نظرية حسين مروة عن التراث والشعر المعاصر في النقاط الأربع التالية:
"أ- تخطي الطريقة السلفية في فهم التراث ومعالجته، وفي فهم العلاقة بينه وبين الواقع الاجتماعي الحاضر، ثم كشف قيمه بالاعتماد على الرؤية المعاصرة بنهجها التحليلي الأكثر تقدماً والتحاماً بحركة الواقع العربي المعاصر.
ب- عدم تجاوز الأوضاع التاريخية لهذا التراث، كأن تُسقط عليه مفوماتنا المعاصرة بكل خصوصياتها المستمدة من وضع تاريخي مختلف جداً، أو نسقط مفهومات الماضي التراثية على الحاضر.
ج- النظر الى التراث كأنه قضية الحاضر نفسه، لأن الحاضر هو حركة صيرورة تتفاعل في داخلها منجزات الماضي وممكنات المستقبل، تفاعلاً دينامياً تطورياً صاعداً.د- كشف العلاقات الثورية التي تحكم التراث والواقع والتاريخ الذي ينتمي اليه، ولئن برزت صعوبات عدة في تطبيق مفهوم الثورية بجميع خصوصياتها الحاضرة على التراث القديم. فإنه لا مانع في رأي مروة من تقصّي كيفية وعي الحرية ومستواها وضرورتها لدى أدباء التراث العربي، وذلك في ضوء مفهومنا الحاضر للثورية". (أبو جهجه).
يتضح من الموقف النقدي السابق، أن حسين مروة بصفته ناقداً اشتراكياً لا يرفض الإطار الحركي للصيرورة الاجتماعية ماضياً وحاضراً، لأن الحاضر ليس إلا انعكاساً لآليات التفكير الثقافية في الماضي. فالثقافة العربية، باعتبارها جزءاً من الموروث، ذات جذور واصالة عميقة تمتد الى ملامسة الواقعين الاجتماعي والتاريخي عبر كامل مراحل التاريخ العربي. لهذا فإن حركية الشعر المعاصر، في تقديري، لا يمكن بعد هذا أن تصطدم بالتراث، أو تقف عنده لأن الشاعر هو سيد الموقف هنا في التعامل مع هذا التراث، فيكون التجديد على صعيد الأبعاد الرؤيوية وتشكلات المواقف والقراءات المتعددة للماضي وفق اختلافات الأبعاد الأيديولوجية والفكرية للشاعر العربي المعاصر.
تحدث مارون عبود عن علاقة التراث بالشعر الحديث في كتابه نقدات عابر، في أثناء مقاربته قضية الثورة على القديم، فطرح الأفكار التي وطّأ لها توطئة دينية مسيحية، وقف خلالها عند أسطورة الخلق وما تلاها من شذوذ وخصام الانسان على أرض الله، "فشاء أن يقوم بتجديد شامل، فأرسل الطوفان العرمرم، وأفنى بني البشر، إلا نفراً قالوا انهم كانوا صالحين. ولا تزال الطبيعة تحذو حذو والدها (يقصد الأب، أي الله بالمفهوم المسيحي)، لذلك نراها تهتم من حين الى حين بتجديد ما قدّم وحدث، تارة بالماء، وطوراً بالهواء، وأحياناً بالنار. وإذا تأملنا رأينا أن الطبيعة هي أكبر مجدد، فلولا غضبتها التي تعتبّر عنها بالزلازل، لما رأينا البيوت المبنية بالوحل المجمّد المجفف، تشاد بالاسمنت المسلح، ولما رأينا مدناً جديدة تخطط بالبركار والزاوية على أحدث طراز. (مارون عبود "نقدات عابر").
أما ما تلا هذه التوطئة القصيرة فهي نقاط حدّد خلالها موقفه النقدي من التراث من جهة، وحركة التجديد في الشعر العربي الحديث من جهة ثانية، فعن التراث يرى عبود أننا، شئنا أم أبينا، موصولون ثقافياً وحضارياً وفكريا بالماضي، لهذا يصبح كل تجديد يخطط له عقيماً إذا لم ينطلق ذلك التخطيط ذاته عن رؤية سابقة، "إن الذين يتنكرون للماضي لفي ضلال، فهم لن يفلتوا من براثن الأمس، وبرهاني على ذلك أننا لا نزال نُحني الهام عندما يذكر راسين، وهوميروس، وشكسبير، وفرجيل، وامرؤ القيس وسليمان وداوود، ومحمد، وعيسى وغيرهم، وكأني بالمصير القريب الذي يصير إليه تجديدنا، لا يكون غير ما صار إليه كل تجديد، فلنفتش عن الجديد في عقول النوابغ، أما هذه الدساتير: افعل كذا، فلا تؤتي ثمارها في إحياء الفن الحيّ الباقي...". (المصدر نفسه).
التغريبأراد عبود أن يقطع الطريق أمام حركة التجديد الشعرية العربية الحديثة التي نادت بضرورة فصل الموروث الفكري والحضاري والثقافي والديني عن الابداع الأدبي عموماً والشعري على وجه الخصوص، خصوصاً عند أنصار الدعوة الى تغريب التجديد الشعري المعاصر، ممن ظنوا ان الارتماء في أحضان الثقافة الغربية، كبديل للموروث العربي القديم، هو بداية التجديد بل جوهره، يقول: "... فأنتم يا أتباع الشاعر العظيم إليوت، لم يقل لكم زعيمكم هذا بالتنكر للماضي كل التنكر، بل قال: المهم أن يحسّ الشاعر بالماضي احساساً مستمراً، ولا يكف عن تنمية هذا الاحساس خلال اطوار حياته المختلفة، وعندي أن الشعر لا يكون في خلق الصور الغريبة البعيدة عن واقع الحياة، بل في التعبير عن مشاعر الحياة، العادية تعبيراً يستحلى ويستملح". (المصدر نفسه).
لكن هذا لا يعني أن عبود انتصر انتصاراً مطلقاً للتراث، وإنما راجع التراث ودعا الى مقاربته مقاربة موضوعية، تفقده تلك الهالة المقدسة التي طالما حفظت اختراقه أو نقده نقداً ذاتياً؛ إنه يؤمن ان الضرورة الزمنية في حركية مستمرة، وفي صراع جدلي مع الواقع في كل مرحلة زمنية من التاريخ، لهذا كانت دعوته الى عدم التنصل من الموروثات دعوة انتقائية أساسها رفض تثبيت الثابت بدعوة القداسة، بل نادى بإقرار كل متحول يقود الى الخلق والتجديد، "فلا نعجب إذن متى رأينا الأدباء من شعراء وكتّاب يثورون على القديم ويحاولون خلق الجديد، ان لكل شيء أزياء، وإن اختلفت أسماؤها، فجوهرها واحد، ولذلك قالوا كلاسيكي، ورومانتيكي، ورمزي، وسريالي، بيد أن جوهر القماش واحدٌ، ولكن التفصيل يتغيّر، والقصّ تارة يكون على القدّ، وطوراً يكون بشكل الجرس العبودي، كما هي حال لباس نساء اليوم". (المصدر نفسه).
لهذا نادى الشعراء المعاصرون بضرورة التجديد وفق أطر محددة، أساسها النظرالى التراث نظرة تكاملية ارادية ذوقية، لا نظرة إلزامية مفروضة بأحكام سلطانية غير قابلة للنقاش، "فلندع الشعراء بلا مواد شرعية تفرض عليهم ونقول: أولاً وثانياً وثالثاً، فالشاعر الحق لا يعنى بالأرقام". نادى مثلاً بضرورة التجديد في اللغة والوزن والقافية، لحاجة روح العصر الى هذا التجديد الذي لا يعني في اي حال من الأحوال الهدم من أجل الهدم فقط، فالثورة على الموسيقى الشعرية القديمة من وزن وقافية، لا تعني أن يغيب التشكيل الموسيقي عن الشعر، وإنما وجب تشكيله في أوجه جديدة ومختلفة بحسب الأبعاد النفسية للشاعر ذاته، لأن "الكلام الشعري غير المقيّد بوزن لا يخرجه لذيذاً شهياً إلا من كان شاعراً وزّاناً في الأصل، فقصائد نزار قباني غير المقيّدة بالتفعيلة القديمة لا تخلو من تفعيلةٍ جديدة تشيع الموسيقى فيها. فهذه قصيدته الجديدة "شؤون صغيرة" ذات تفعيلات خاصة، يهزّك ايقاعها ويدعوك الى استعادة قراءتها... فهذه القصيدة تدفعني الى القول إن نزار قباني هو شاعر الوقت، جدّد ولم ينبذ القديم نبذاً قصدياً، ولو وُفّق الآخرون الى مثل هذا لرحّبنا بجديدهم، وهو هذا الشعرالرفيع". (المصدر نفسه).
يختم عبود حديثه عن قضية التراث والتجديد، بجملة أشمل من أن تحويها كلماتها، لأنها نابعة من فلسفة ضاربة جذورها في الفكر الانساني منذ القديم، يظهر خلالها أن حركية الابداع والتغيير والتجديد ما هي إلا حركية زمنية خارجة عن إرادة البشر، لأنهم في أحسن الأحوال خاضعون للجدلية الزمنية في شتى تمظهراتها. يقول: "وبعد فلماذا نتعب، فالزمان، وهو المغربل الأعظم، كفيل بردّنا الى الصواب وإرشادنا الى خلق شعر جديد حقاً". (المصدر نفسه).
أما عز الدين اسماعيل فتناول علاقة الشعر العربي المعاصر بالتراث في كتابه الشعر العربي المعاصر، تناولاً تطبيقياً راجع خلاله حضور الموروث في النص الشعري لدى كثير من الشعراء الرواد، حيث قام بدراسة التمظهرات المختلفة للتراث في المتن الشعري العربي المعاصر بعد استقصاء مختلف مراحل هذا الحضور، فلاحظ أن التراث تجلى واختفى في الشعر العربي المعاصر في الوقت ذاته، الأولى عندما قرّر الشاعر المعاصر إعادة قراءة الموروث قراءة صادقة معبرة عن رؤية ذات صلات وثيقة بالماضي، والثانية عندما كُسّر إطار الشعر القديم فاختفى التشكيل المعماري الأنموذج، وعُوض بالتجارب التشكيلية المتفرّدة النابعة من الرغبة في بناء النموذج المتغير لا النموذج الثابت، يقول اسماعيل: "هل حقاً ينفصل شعراء هذه التجربة عن التراث؟ نجيب عن هذا من دون معاظلة بنعم ولا. بنعم لأن إطار شعرهم يختلف اختلافاً كلياً عن إطار الشعر القديم، وهم لم يعودوا يتخذون ذلك الاطار القديم مثالاً يُحتذى، ولا لأنهم وإن انفصلوا عنه فإنهم لم يبتروا الصلات المعنوية التي تربطهم به وبالتراث بعامة. انهم اذاً انفصلوا عنه لكي يقفوا منه مع ذلك على بعد بعينه يمكّنهم من رؤيته رؤية أصدق، وتمثله تمثلاً أعمق". (عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر).
الروادتجسد الموقف النقدي لدى شعراء هذه المرحلة، وخصوصاً الشعراء الرواد، في كثير من كتاباتهم وتصريحاتهم وقصائدهم، وهذا ما سنعرض له في مراحل لاحقة من البحث، ونكتفي الآن بإبراز الرؤية العامة لهؤلاء بشأن توظيف التراث في الشعر العربي المعاصر، التي ترتكز على ركائز عدة، أولها ضرورة قراءة الموروث الثقافي والحضاري لغاية ربط العلاقات الموضوعية بين الراهن المعيش والماضي، ربطاً تكاملياً من دون جعل التراث قيداً نتقيّد به أو أنموذجاً للاحتذاء والمعارضة، أما الركيزة الثانية فتمثلت شعراً من خلال التناص مع الموروث في صوره المختلفة، دينية، أو اسطورية، أو تاريخية، حيث قرر الشاعر المعاصر توظيف التراث داخل تشكيل بُنية القصيدة الحديثة لغاية خلق نوع من التواصل الفكري بين قواسم يجد أنها مشتركة. وثالثة الركائز، في اعتقادي، هي توظيف النماذج التراثية توظيفاً استدلالياً انطلاقاً من قراءة الحاضر، ومحاولة فهم الماضي في ضوء الحاضر لا العكس، هذا ما تحقق عند الشعراء "الميتافزيقيين" الذين التمسوا لمواقفهم أعذاراً في الموروث. وحلل عز الدين اسماعيل الفكرة السابقة تحليلاً دقيقاً، رصد خلاله موقف الشعراء المعاصرين من التراث في اعتبارات أربعة تمثلت في ما يأتي:
- ضرورة تقدير التراث في إطاره الخاص، فلا نحمّله ولا نحمل عليه ما لا يطيق، أي وجوب تمثله ككيان مستقل نرتبط به تاريخياً.
- مراجعة التراث انطلاقاً من الراهن المعيش والنظر إليه في ضوء المعرفة العصرية لا لتجريحه، أو الانتصار له، كما سبق أن حدث، لكن لتقدير ما فيه من قيم ذاتية وروحية وانسانية خالدة.
- خلق علاقة ترفيقية في التعامل مع التراث، فلا ردة تجاه الماضي كلية كما فعل أصحاب الإحياء، ولا عن طريق الاجتهاد في جعله مسايراً لتصورات العصر، لكن عن طريق استلهام مواقفه الروحية والانسانية في ابداعنا العصري.
- ضرورة خلق نوع من التوازن التاريخي بين جذور الماضي والفروع الناهضة على سطح الحاضر. (المصدر نفسه).
من هنا، أضحت مقاربة التراث بالنسبة الى الشاعر المعاصر مقاربة الزامية وفق الاعتبارات والركائز التي سبق ذكرها، إذ على الرغم من كسر القوالب الشكلية للقصيدة العربية، والثورة على نظام الوزن والقافية، فإن الشاعر المعاصر ظل متشبثاً بالمادة الفكرية والحضارية التي يمده بها التراث، فتوطدت العلاقة بينه وبين الماضي في إطار شراكة فكرية تعمل على استيعاب المعنى الانساني للتراث وتفهمه وإدراكه ووعيه، "فشعراء هذه التجربة قد استطاعوا لأول مرة أن ينظروا الى التراث من بُعد مناسب، وأن يتمثلوه لا صوراً وأشكالاً وقوالب، بل جوهراً وروحاً ومواقف، فأدركوا بذلك أبعاده المعنوية، وهم في خروجهم على الاطارالشكلي للشعر القديم لم يكونوا بذلك يحطّمون التراث، بل كانوا يحطّمون شكلاً كان قد تجمّد ومن شأنه أن يتطور ويتجدد، فليس الشكل هو روح التراث وإن ارتبط به في يوم من الأيام، ويصعب أن يكون للتراث فعالية حقيقية في زمان غير زمانه، إذا كان الشكل وحده هو كل ما يمكن أن يستفاد منه". (المصدر نفسه).
حدد اسماعيل في معرض حديثه عن التراث في الشعر العربي المعاصر خمسة مصادر أساسية للتراث، جرى ابرازها بأشكال وظيفية مختلفة في المتن الشعري من شاعر الى آخر، وهي القرآن الكريم، والمرويات، والتراث الشعبي، والمواقف التاريخية، والشخصيات الانسانية. وهي مصادر أُعيد قراءتها وفق ما يأتي.
- الموروث الديني (أكان اسلامياً أم مسيحياً) والحضور الأسطوري.
- الثقافة الشعبية خصوصاً المروي منها.
- الشخوص التاريخية الفاعلة.
من هنا وجب طرح التساؤل الآتي: كيف تمظهرت هذه المصادر في القصيدة العربية المعاصرة؟
يقف المتجول في دواوين الشعر العربي المعاصر، مباشرة، على قدرة كثر من الشعراء على توظيف الموروث بتمظهراته السابقة، توظيفاً ابتعد عن الاقتباس المباشر. لهذا أكتفي في ما سيأتي بعرض النماذج الرئيسة والدالة على المصادر السابقة، لأنني سأفضّل القول فيها أكثر فأكثر في مراحل البحث اللاحقة، وذلك حين أتحدث عن مفهوم الشعر عند الشعراء الرواد وعلاقته بالتراث.
-
أضف تعليقك على الموضوع