العصر الجاهلي قبل الإسلام

العصر الجاهلي قبل الإسلام


قد يتبادر إلى الأذهان أن العصر الجاهلي يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب وأزمنة؛ فهو يدل على الأطوار التاريخية للجزيرة العربية في عصورها القديمة قبل الميلاد وبعده. ولكن من يبحثون في الأدب الجاهلي لا يتسعون في الزمن به هذا الاتساع؛ إذ لا يتغلغلون به إلى ما وراء قرن ونصف من البعثة النبوية؛ بل يكتفون بهذه الحقبة الزمنية، وهي الحقبة التي تكاملت للغة العربية منذ أوائلها خصائصها، والتي جاءنا عنها الشعر الجاهلي. ولاحظ ذلك الجاحظ بوضوح إذ قال: "أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن، أول من نهج سبيله وسهل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة.. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له -إلى أن جاء الله بالإسلام- خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام"1. وهي ملاحظة دقيقة؛ لأن ما قبل هذا التاريخ في الشعر العربي مجهول، ونفس تاريخ العرب الشماليين يشوبه الغموض منذ قضى الرومان على دولتيهم في بطرا وتدمر؛ إلا بعض أخبار فارسية وبيزنطية قليلة وبعض نقوش عثر عليها علماء الساميات، وتشير تلك النقوش والأخبار إلى إمارات الغساسنة في الشام والمناذرة في الحيرة ومملكة كندة في شمالي نجد؛ غير أن معلوماتنا عن هذه الإمارات فيما وراء القرن السادس الميلادي محدودة، وهي إنما تتضح في العصر الجاهلي الذي نتحدث عنه؛ إذ حمل إلينا العرب كثيرًا من الأخبار عن تلك الإمارات وأمرائها الذين كانوا يستولون فيها على الحكم، كما حملوا إلينا كثيرًا من
الأخبار عن مدن الحجاز وخاصة مكة بيت الكعبة المقدسة، وكذلك عن القبائل وما كان بينها من أيام وحروب.
من أجل هذا كله نقف بالعصر الجاهلي عند هذه الفترة المحدودة أي عند مائة وخمسين عامًا قبل الإسلام، وما وراء ذلك يمكن تسميته بالجاهلية الأولى، وهو يخرج عن هذا العصر الذي ورثنا عنه الشعر الجاهلي واللغة الجاهلية، والذي تكامل فيه نشوء الخط العربي وتشكله تشكلًا تامًّا كما قدمنا في غير هذا الموضع. فذلك العصر المتميز الواضح في تاريخ العرب الشماليين هو العصر الجاهلي.
وينبغي أن نعرف أن كلمة الجاهلية التي أطلقت على هذا العصر ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه1 إنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق؛ فهي تقابل كلمة الإسلام التي تدل على الخضوع والطاعة لله جلَّ وعز وما يطوى فيها من سلوك خلقي كريم. ودارت الكلمة في الذكر الحكيم والحديث النبوي والشعر الجاهلي بهذا المعنى من الحميَّة والطيش والغضب؛ ففي سورة البقرة: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وفي سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وفي سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} . وفي الحديث النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر وقد عير رجلًا بأمه: "إنك امرؤ فيك جاهلية". وفي معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
وواضح في هذه النصوص جميعًا أن الكلمة استخدمت من قديم للدلالة على السفه والطيش والحمق. وقد أخذت تطلق على العصر القريب من الإسلام، أو بعبارة أدق على العصر السابق له مباشرة وكل ما كان فيه من وثنية وأخلاق قوامها الحمية والأخذ بالثأثر واقتراف ما حرم الدين الحنيف من موبقات.

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5

أضف تعليقك على الموضوع

code
||