في ظِلالِ بيت (2)

في ظِلالِ بيت (2)

 

و وضعُ الندى في موضعِ السيفِ بالعُلى
مُضِرٌ.. كوضعِ السيفِ في موضعِ الـندى

المتنبي

أقولُ، بلا مبالغة، أنّ الأبياتَ الشهيرةَ للمتنبي، أو ما يُسمَّى بقصيدةِ البيتِ الواحد، سبقتِ العلومَ الاجتماعيةَ إلى أمورٍ ظهرتْ في العصرِ الحديثِ فناً من فنونِ القيادة، أو بحوثاً مُحَكَّمةً في علمِ النفس، أو استراتيجيةً في العلاقاتِ العامةِ و الإعلام، أو حتى أعراض مرضٍ نفسيٍ كقوله “إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءتْ ظنُونه * وصدّقَ ما يعتاده من توهّمِ … وعادى مُحبّيه بقولِ عداتِه * وأصبح في ليلٍ من الشكِّ مُظلمِ”. فشِعْرُ المتنبي يتقاطعُ مع علومٍ عديدة، و لهذا خُلِّدت أسطورتُه في ذاكرةِ الأممِ على اختلافِها، و في ثقافاتِ الشعوبِ على تنوعِها.

المتنبيُّ، في البيتِ الذي نَتَفَيّأُ ظِلالَه هذه المرة، لا يقصد السيفَ، تلك الآلة الحادة التي هي من أقدمِ آلاتِ الحربِ و حسب، بل جعله رمزاً لقيمٍ أخرى تطوفُ حولَ السيف، كالحزْمِ، و الصرامةِ، و القوة. كذلك لا يقصد الندى العطاءَ و حسب، بل جعله رمزاً لقيمٍ أخرى تلتفُّ حولَ الندى، كالرفقِ، و الوداعةِ، و التوجيه.

إذا أنتَ مديرٌ لإدارةٍ ما، أو رئيسٌ لقسمٍ ما، و أخطأَ موظفٌ تحتَ مدى إشرافك، فتجاهلتَ الأمر، ثم أخطأَ الخطأَ نفسَه ثانيةً، فغضضتَ الطرف، فقد أخطأتَ في الثانيةِ دون الأولى، لأنك وضعتَ الندى موضعَ السيف.

إذا رأيتَ رجلاً يفتحُ نافذةَ سيارته، و يرمي بقايا طعامِه و شرابِه في الطريقِ أمام المارةِ بعدما احتوتَها معدتُه العامرة، و قمتَ تميطُ ما رماه من أَذى على مرأىً منه، و وضعتَه في سلّةِ المُهملاتِ أمامَ ناظريه، حتى هطلتْ أمطارُ الخجلِ الحمراء من وجهِه، و غابَ في غيابةِ مقعدِه حياءً، فقد أصبت لأنك وضعتَ الندى موضعَ السيف.

إذا تعملُ مُعلِّماً، و تظنُّ أنّ تلميذاً من تلاميذِك يعاني مشكلةً لم يصرّحْ لك بها، و لكنّك تراها في تقاسيمِ وجهِه الذابل، وتبصرُها في أغوارِ عينيه الحزينة. و توبّخه علناً على أخطائِه، و ربما تضربُه، فقد أخطأتْ لأنك وضعتَ السيفَ موضعَ الندى.

إذا ابتُلِيَ أحدٌ من معارفِك، و ربما من أقاربِك، بداءِ الحسدِ الذي يأكل قلبه، و لم ينجعْ فيه كلُّ دواء، و يُقدِّمُ لَكَ العسلَ ممزوجاً بملعقةٍ من السُّم، و يُعانقكَ بقوةٍ ليطعَنكَ بسكينٍ في ظهرِك، و يرسل عليك قذائفَ من الكلامِ و الأفعالِ لتشُلَّ حركتَك. و كلما تمادى في غيِّه، كلما أحرقتَه أكثرَ بتجاهلِك، فقد أصبت لأنك وضعتَ الندى موضعَ السيف.

إذا شاهدتَ قائدي المركباتِ يقفونَ أمامَ الإشارةِ الحمراء، و لا تلامسُ مركباتُهم الخطوطَ الموضوعةَ لعبورِ المشاة، و لا يتخطّون الحدَّ المسموحَ للسرعةِ القصوى، فاعلم أنّ الدولةَ أصابتْ في وضعِ السيفِ موضعَ الندى في حركةِ المرورِ عبرَ “ساهر”.

نظريّةُ السيفِ و الندى، التي وضعَها المتنبي قبلَ عشرةِ قرون، نحتاجُها في أمورٍ لا حصرَ لها بحياتِنا. المهمُّ؛ أن لا نستغني عن السيفِ تمامًا، و أن لا نتجاهل الندى أبدًا. و الأهمُّ؛ أن نعرفَ متى نسُلُّ السيفَ؟ و متى نُقَطِّرُ الندى؟

بقلم: طارق بن خويتم المالكي

 

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5

أضف تعليقك على الموضوع

code
||