المتنبي بين جيل الرواة ونظرية النقد الثقافي

المتنبي بين جيل الرواة ونظرية النقد الثقافي

 

نعلم أن الجملة البلاغية هي تلك الجملة المشحونة بالصورة والأسلوب والدلالة ونعلم أن الجملة النحوية هي تلك الجملة ذات الطابع التداولي الخطابي، إذاً الجملة الثقافية هي أصغر خطاب في نسيج النص والنصوص وتكشف عن سر النص وسر جماهيرية خاصة - والتي تفضح المضمر الخفي والعميق الذي حوّل إلى ذاكرة نفوس القراءة عبر العصور والأزمان وما أفضى إلى استهلاك النص جماهيرياً واستمرارية الترويد وعميق الأثر في النفوس.
ولكن إذا كان النقد الثقافي يبحث عن الغائب المضمر فهل نصوص المتنبي التي تميزت بالعزة والإباء والشموخ والطموح فغائبها هو العكس حسب نظرية الغذامي وبذلك يوافق الحساد والرواة الذين أوردوا هوان واخفاق المتنبي؟
إن نظرية النقد الثقافي تفرق في أسس التحليل بين النقد الأدبي والثقافي فتقول حسب رأي الغذامي هي.
1- النسق بديل للدال في النقد الأدبي
2- الجماهيرية بديل للنخبوية وإذا درسنا أشهر نص للمتنبي ويكاد أن يكون الأكثر ترديداً وبقاءً، وجعلنا النسق هو حياة المتنبي وجدلية النقاد حوله وإشارات النص فهل سيتحقق رأي الغذامي.
يقول المتنبي:
«واحر قلباه ممن قلبه شبم

              ومن بجسمي وحالي عنده سقم»
ثم يسرد النص تفوقه على كل من حوله حتى سيف الدولة:
«سيعلم القوم ممن ضم مجلسنا

                   بأنني خير من تسعى به قدم».
ولا يخفى على أحد أن المتنبي عموماً قد أشبعه النقاد درساً وقراءة للإحتمالات الكثيرة في تأويل ومحاورة نصوصه ولما تحمل معانيه من تعدد الخطاب والمعاني حتى أصبح يثير جدلية نقدية وإذا كانت هذه السطور ترمى لتسليط الضوء على الاستهلاك الجماهيري ولأن الغذامي قد وضع شروطاً للنص الجماهيري هي:
1-أن يكون النص متردداً جماهيرياً
2- أن يمتلك النص نسقين ظاهر ومضمر
3- أن يكون النسقان في حالة من الصراع
4- أن يكون النص جميلاً
ونص المتنبي السالف الذكر يمتلك جميع الشروط التي ذكرت- وحتى يتضح للقارئ شيئاً من ذلك سوف تنعرج على بعض الجماليات في النص كي يتميز النقد الأدبي من الثقافي- تقول الأستاذة/حفيظة صالح الشيخ، في كتابها «معنى المعنى» عند أبي الطيب المتنبي إن دلالات الصورة في أبيات النص السابق :«توحي بالتبدل والتحول لأن صورة الممدوح أصبحت مهتزة ومسترها المادح بمعنى خفٍ ليلطف لهجته الساخرة تجاه الممدوح في قوله:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي

                      فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة

                 أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظرة

                          إذا استوت عنده الأنوار والظلم
وقالت :«إن الأبيات تعكس حالتين إيجابية وتتمثل بـ... أعدل الناس هو الحكم، لديه نظرات صادقة وحالة سلبية تتمثل بــ.. لا يعدل هو الخصم تلتبس عليه الأمور» ثم تبين الدراسة السخرية من الممدوح حيث تأتي السخرية من التوازي الصفات المثبتة والمنفية «احتمال تجرده من العدل والشحم والورم» فالشحم والورم صفتان للخصوم فهم يتميزون بعظم المظهر وسوء المخبر «بل أتهم سيف الدول في عقله واستوت عنده الأنوار والظلم أي لا يستطيع تمييز وتقييم الأمور».

ومن خلال نظرية الجرجاني التي ركزت على ارتباط اللفظ بالمعنى والدال بالمدلول من خلال العلاقة البلاغية والنحوية مما يفضى إلى دلالات صفية فإن القارئ يكتشف الصراع الذي يتملكه النص وتمثل بما يلي:
- مصداقية الحب من المادح وبرود مشاعر الممدوح وإدعاء الحب ممن حوله من الخصوم0
- عدم القدرة على اقناع الممدوح بذلك.
اتخاذ قرار الفراق مع وجود الارتباط بالمكان وأهله مما أدى إلى اضمحلال القناعة0
الفشل في بناء علاقات تؤدي إلى الوصول للطموح والمصداقية والشعور بالتميز العقلي على من حوله مما يفضى إلى التربع على القلوب كلها إضافة إلى الصراع الظاهر ما بينه وخصومه ومشاعره والزمن، والتناقص الشديد مع كل من حوله
ومما سبق فإن الغذائي يقول: إن من شروط النص الذي يدرس ثقافياً امتلاكه لنسق ظاهر ومضمر ويبرر ذلك «إن الكشف عن الجملة الثقافية المتحكمة في الخطاب سيظهر للقارئ خطاب النصوص المتشابهة عبر التاريخ كنص واحد».
إذاً النسق الظاهر في النص هو التميز والتفرد بكل ما هو معجز ويتمثل ذلك بــ:
التميز في العواطف وفي المشاعر والاحاسيس الصادقة.
مالي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم
وغيره كاذبون مدعون «وتدّعي حب سيف الدولة الأمم»
التميز العقلي المبدع الذي يثير الجدل
«أنام ملء عيوني عن شواردها

                        ويسهر الخلق جراها ويختصُم»
ومن حوله سواء الممدوح أو الخصوم فهم دونه عقلاً وإبداعاً.

أعيذها نظرات منك صادقة

                أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورُم
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة

                          تجوز عندك لا عرب ولا عجم»

ـ التميز بالصدق من خلال مشاعرة المحبة تجاه الممدوح وبغضه لخصومه وهذه أخلاق. نادرة ـ
التميز الآني والمستقبلي على الجميع.
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا 

                        بأنني خير من تسعى به قدم
إذاً النسق الظاهر كان إظهار التميز العبقري ، عقلاً ومشاعراً وأخلاقاً.
والمتلقى يندفع مندهشاً وراء هذه المعاني والدلالات فالفرد يرغب بالتميز كفطرة وغريزة إنسانية - ولكن هل الخطاب الغائب هو العكس؟ والذي جعل من نصوص المتنبي جماهيرية هي الانساق المضمرة التي العميقة في نفوس المتلقين.
يقول الغذامي: «إن النسق المضمر لا يتبدى على سطح اللغة بل تمكن عبر الزمن من التخفي حتى أنه ليتخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين حتى الحداثي يبدو رجعياً بسبب سلطة النسق المضمر عليه».
مما سبق يمكن القول: إن المتنبي حسب رأي الغذامي مبدع وهذا لا يختلف عليه اثنان ولكنه كان يكتب بسياق مضمر في نفسه ترسب وخاطب العمق في نفوس القراء، وإذا رجعنا إلى حياة المتنبي يقول البرقوقي عن نسبه «هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبدالجبار الجعفي الكندي، وجعفي جد المتنبي بن سعد العشيرة من مذيج بن كهلان» وقيل إنه يمني القبيلة وظهر التعصب لليمانية في شعره ولكن قبيلته ضعفت وانقطع نسلها كما قال مستعطفاً كافوراً:
وأمضى سلاح قلدّ المرء نفسه 

                                 رجاء أبي المسك قصده
هما ناصرا من خانة كل ناصر

                        وأسرة من لم يكثر النسل جده
إذاً الخطاب يعكس معاني الضعف القبلي بوصف الخذلان جاء من غياب القبيلة التي أبدلت بالأسرة التي انقطت ونضب تكاثرها «وأسرة لم يكثر النسل جده» ويقول البرقوقي: «إنّ أبا المتنبي لم يكن نابه الشأن وكان سقاء بإجماع المؤرخين» ومما سبق فإن الشاعر عانى من الفقر والنسب القبلي المجهول ولذلك لم يكن من أسرة ذات جاه مما يترتب عليه أن الذات المستحيلة والأناء الفريدة ما كانت إلا الانسلاخ من ما يؤيد الرواة والحساد الماضي وأتت الذات «الأنا» بكثافة بعيداً عن القبيلة والأدب والأسرة.

 

منقول عن

 علي أحمد عبده قاسم

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5

أضف تعليقك على الموضوع

code
||